قضايا وآراء

الديمقراطية والأحزاب.. ماذا لو فسد الملح؟

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
ميكيافيللي الذي يعد اسمه علما في عالم الغش والدسيسة والمؤامرات، له رأي في الحكم والسلطة جدير بالتأمل. قال: إن بعض الباحثين يلومون الرومان على ابتداع الديكتاتورية التي تنتهي إلى الحكم المطلق، وهو حكم أثبت التاريخ جوره، والإنصاف يدعونا لأن نقول – ما زال الكلام لمكيافيللي- إن الديكتاتورية في روما كانت قانونا ولم تكن اغتصابا، والديكتاتور يستمر في منصبه لمده معلومة ومحددة. من أجل ذلك لم نجد دكتاتورا إلا وأفاد روما إفادة واضحة، وهي أخطر بدعه ابتدعتها روما، ويرجع الفضل لها في تكوين تلك الامبراطورية الكبرى، ذلك أن الحاكم القوى يحتاج كثيرا إلى البت السريع، والبت السريع لا تصلح له الجمهورية التي من شأنها ألا تبت في أمر من أمورها، حتى تتفق عليه عدة سلطات، كثيرا ما يتعذر بينها الوفاق، وفي هذا إضاعة لزمن غال تضيع بإضاعته فرص غالية.

هذا تفسير ميكيافيللي للدكتاتوريات الرومانية، أما رأيه هو فمفاجأة إذ يقول: إن الاستناد إلى الشعب أضمن لصيانة الحرية من الاستبداد، وإن الوفاء للشعوب أوثق من الوفاء للملوك والنبلاء، وإن الحالة الوحيدة التي تبرر الديكتاتورية هي اختلال الأركان في الجمهورية.

ويرى أن الشعب يجب أن يلتف حول الحاكم عن حب ومهابة وثقة، لا عن خوف وخنوع واستسلام.. انتهى كلام ميكيافيللي الذي قد يخالفه فيه كثيرون. 

ديكتاتورية هتلر، يتحتم على أي مهتم بتجارب التاريخ أن يقف عندها كثيرا ، وهي نموذج غريب؛ فقد أجمع كل المؤرخين على أن الأمة الألمانية لم تجد رخاء كرخاء عهد الديكتاتورية الهتلرية، ومع هذا فقد انتهى هذا العهد بكارثة لم تعرف الأمة الألمانية كارثة مثلها؛ لأنها تحولت إلى حكم مطلق بعد أن كانت ديكتاتورية تعتمد على المشورة، فأنكرتها بعض حين، وأصاب صاحبها الغرور وتصور أنه لا ينبغي أن يرى أحد إلا ما يراه هو؛ لأنه لا يختار إلا سبيل الرشاد، هكذا تبدأ كوارث الأمم دائما. 

يذكرون في هذا الصدد أيضا فرانكو إسبانيا، ويقولون إنه اعتمد في طول حكمه على شيئين: "رضا الناس وممالآتهم"، واعتداله في استخدام ما بيده من قوه لا حد لها. هناك أمثله للحكم المطرز بأشكال جميلة وشديد العفن من الداخل، والتطريز الجميل الذي أقصده بالطبع هو الديمقراطية والتعددية الحزبية والانتخابات، ثم حكومة يأتي بها الناس بعد ذلك، وأجمل تشبيه قرأته للديمقراطية أنها كالإناء، قد توضع فيه الثمار الطيبة، وقد توضع فيه الثمار الفجة المرة، فتصبح بذلك ذريعة قويه لدكتاتورية مخلّصة ( بتشديد اللام ) كما قال ميكيافيللي. وأسوا ما في الديمقراطية (رقص المال)، أقصد تراقصه وتلاعبه في الأيادي والأعين، وهذا وما يتبدّى بوضوح شديد في الغرب الآن.

وأعتقد أن هذا الموضوع هو ( كعب أخيل ) الديمقراطيات؛ أي أضعف جزء فيها، سواء في تأثيره على الأحزاب التي هي بنيان العملية الديمقراطية، أو في تأثيره على الناخب (الصوت والصندوق)، وقد يبلغ الرجل الجبان بماله ما ليس يبلغه الشجاع المعدم. ومن أسوأ ما يطالعك في الحزبية، أن العمل السياسي قد يصبح عند البعض احترافا وتكسبا، ويصبح البوابة الكبرى للمجد والشهرة والمال والتصارع الفارغ، لا عملا تطوعيا يرجى به الصالح العام للوطن، ولا أمرا بمعروف ونهيا عن منكر يرجى به صالح الناس ورضا رب الناس، وأول من تنبه لهذه الكارثة مؤسس الولايات المتحدة الأمريكية (جورج واشنطن)، هكذا العظماء دائما يشعرون بالخطر وهو بعد وليد. 

ولعل موقف الأستاذ حسن البنا رحمه الله من الأحزاب، كان يقترب من هذه الرؤية، لكن المشكل في الموضوع أن الأحزاب ولدت يوم ولدت الديمقراطية. "واشنطن" الذي رفض رئاسة الجمهورية لثالث مرة، ويعتذر عن ذلك ويخطب في أمته معتذرا عن الاستمرار ومودعا قائلا : لقد سبق وذكرت لكم أخطارا تجيء من وجود الأحزاب في الدولة، فدعوني أزدكم وأحذركم. وأخذ يعدد في عيوب الحزبية، بدئا من أن لها (جذورا أرضها شهوات الأنفس العارمة) و (تسلط قادتها ورؤساؤها، تسلط هو في ذاته نوع من الاستبداد المخيف، وقد يؤدي في نهاية الأمر إلى نوع من الاستبداد أكثر ثباتا)، وانتهاء بوصفها (أنها قد تنفع، ولكنها كالنار تدفئ وإدفاؤها في خفضها، أما إذا هي اشتعلت حتى تأججت وامتدت ألسنتها، فلن تكون للدفء، ولكن للحريق الذي يأكل البيت ومن فيه). هذا رأي أحد أكبر وأهم رجل في تاريخ أمريكا. ماذا فعل المال وسطوته وشركات النفط والأدوية والسلاح بالعمل السياسي والأحزاب؟ ماذا فعلت شركات الإعلان والدعاية وبرامج التوك شو والتغطيات الانتخابية والتقارير التي تبثها محطات التلفزيون العملاقة، مرددة (الأكاذيب النبيلة لإقناع الدهماء بضرورة وجود الحكماء على العرش)، بتكرار وإلحاح يسحق أمامه أي محاولة للتريث والتفكر وقراءه المشاهد والمواقف بعين التبصر، الذي يسميه ناعوم تشومسكى (فبركه الموافقة)، والناس على دين تلفزيوناتهم كما كانوا من قبل على دين ملوكهم. الديمقراطية اليوم على رواجها وانتشارها في العالم إلى حد غزو بلد لبلد آخر لأنه ليس ديمقراطيا!! وعلى ما يكاد يتفق الناس كلهم على كونها حتى الآن أصلح نظام حكم توصلت إليه الإنسانية لحل معضلة السلطة، التي تحفظ المجتمع ولا تبتلع حريات الناس، فإن بها من العيوب ما يحتاج إلى معالجة، وحمايتها بسياج يصونها ويحمى المجتمعات من الأشرار أصحاب المال والسطوة. وأهم سياج هو (تمرين الناس وحضهم بكل الوسائل على مزاوله الشؤون العامة، حتى تصبح رعاية المصالح العامة عادة يباشرها الناس عفو الخاطر كأنهم لا يقصدونها، مثلهم في ذلك مثل الأعضاء البدنية التي تشترك في التغذية فيما بينها في غير كلفة) كما قال العقاد. و(تعميق الرشد والإنسانية في المجتمعات، حماية للوعي الاجتماعي، وتأكيد لعلاقة الفرد بالمجتمع لمواجهه تزييف الوعي الذي تمارسه الميديا الغربية، حتى تتضح المعايير الصحيحة للحقيقة) كما يقول هابرماس أحد مؤسسي مدرسه فرانكفورت في كتابه (نحو مجتمع رشيد)، وهذا يكون بتنمية (الحاسة المجتمعية) في البيت والمدرسة والنادي والمسجد والكنيسة والإعلام، وإقامة دورات وإعطاء محاضرات وطبع نشرات ودوريات، وكل ما من شأنه أن يجعل (رعاية المصلحة العامة عادة)، والحمد لله أن الاهتمام بالشأن العام في ثقافة أمتنا عبادة. ولنا أن نتأمل في أركان الإسلام والتأكيد الدائم أن تتم في منظومة جماعية. ما أريد أن أصل إليه من خلال مقالي هذا، هو أن الحكم الصالح ليس ديكتاتوريا، ولا بالضرورة ديمقراطيا، ولا هو بالقوانين والدساتير والمراسيم واللوائح. كل هذه أشكال وصور قد يتحقق معها الحكم الصالح، وقد لا يتحقق. أما الحقيقة الأخيرة فتقول، إن الحكم الصالح لا يكون إلا برجال صالحين.
التعليقات (0)