استشهاد الرئيس رفيق الحريري جعل السنّة في وحدة شبه إجماعيّة فتحرّكوا مع المسيحيّين محمّلين سوريا الأسد مسؤوليّة العمل الإجرامي، ومُطالبين باستقالة الحكومة ورئيس الجمهوريّة وبانسحاب الجيش السوري من لبنان. فحقّقوا المطلب الأول جزئيّا في سرعة والمطلب الثاني كليّا.
الرئيس رفض التنحّي، ورفض البطريرك الرمز صفير تنحيته بالقوّة حفاظا على المقام ورفضا لسابقة. لكن الوحدة السياسيّة بين الشعوب "الثلاثة" (سنّة ودروز ومسيحيّين) استمرّت ولكن ليس طويلا.
فالانشقاق الأوّل عنها بدأه "التيار الوطني الحر" الذي كان دائما رافضا سوريا و"حزب الله"، لكنّه قبل مغادرته منفاه بوقت قصير "أبرم" صفقة معها ومع لحود عبر ممثّلين لهما في باريس لإخراجه من المعارضة. وهذا ما حصل. إذ وقّع تفاهما مع "الحزب" بعد أشهر من العودة. وبدأت المعارضة نفسها الانتقال من الهجوم إلى الدفاع أولا بفعل اغتيال رموز أساسيّين فيها. وثانيا بفعل "حرب تموز" 2006 التي انتصر فيها "الحزب". وثالثا بعد تنفيذ الأخير عمليّة أمنيّة وعسكريّة في 7 أيار 2008 في العاصمة وبعض خارجها أظهرت قُدرته على السيطرة وعجز المعارضة عن المواجهة. ورابعا احتلاله وسط بيروت أشهرا طويلة. وخامسا بفرضه شغورا رئاسيّا استمرّ أشهرا. وسادسا بذهاب الجميع إلى "مؤتمر الدوحة" حيث خسرت المعارضة بموافقتها على "ثلث معطّل" في الحكومة لـ"الحزب" وعلى ثلاثيّة "الشعب والجيش والمقاومة" وعلى إجراء انتخابات نيابيّة وفقا لقانون "الستّين". خلخل ذلك المعارضة إذ دفع الزعيم الدرزي الأبرز جنبلاط إلى موقف حيادي من "حزب الله" مع استمراره في العداء للأسد.
وبدأت علائم التفسّخ تظهر على ما بقي من المسيحيّين فيها. لكن ذلك لم يُضعف وحدة السنّة بقيادة نجل الشهيد الحريري سعد. إلّا إن التطوّرات التي حصلت منذ عام 2008 وتُظهر في وضوح أنها دخلت مرحلة الضعف من دون أن يستفيد منها عدوّهم أي "حزب الله" وشعبه. وأسباب ذلك كثيرة، منها عدم وجود استراتيجيا لبنانيّة عند السعوديّة وسياسة تطبيقيّة لها، واعتقاد قيادتها أنّه لا يزال ممكنا إقناع الأسد وحلفائه اللبنانيّين بالعمل معا لاستقرار لبنان. ومن هنا كانت زيارة الحريري لدمشق واجتماعه بالأسد. وقبلها كانت زيارة للرئيس السنيورة إلى دمشق. وتجلّى الفشل في إقالة "الثلث المعطّل" حليف دمشق وطهران الحريري وهو على باب مكتب أوباما. وبقيت السعوديّة على اعتقادها فذهب مليكها الراحل إلى دمشق واصطحب معه إلى بيروت الأسد. لكن شيئا لم يتحقّق. ومنها أيضا غياب الحريري عن لبنان 4 سنوات أمضاها في السعوديّة لدواع أمنيّة. لكن الزعامات لا تغيب. أشْعَرَ ذلك شعبه باليُتْم وهم يرون اهتمام إيران الواسع والمتنوّع بـ"شعبها" وحلفائه. وأيقظ التنافس على قيادة "المستقبل" وعلى رئاسة الحكومة بين "أقطابه".
ومنها، ثالثا، حصول أمور ثلاثة سلبيّة في أوقات مُتقاربة. الأول انهيار أسعار النفط وانقطاع القسم الأكبر من المساعدات الماليّة السعوديّة للبنان وتأثّر حلفائها بذلك كثيرا. والثاني وقوع الحريري في ضائقة ماليّة خطيرة لا يبدو أنه قادر على الخروج منها. والثالث عودته إلى البلاد من دون خطّة وتصرّفه عشوائيّا في القضايا الوطنيّة المطروحة بدءا بالشغور الرئاسي وانتهاء بالانتخابات النيابيّة. تسبّب ذلك بانشقاقات رسميّة قد تهدّد "المستقبل" ومستقبله أبرزها الوزير أشرف ريفي ثم خالد الضاهر وآخرين. وعزّز منافسة من أدخلهم والده السياسة إيّاه على رئاسة الحكومة.
ومن الأسباب، رابعا، فقدان الحريري الحظوة عند الحكم الجديد في السعوديّة بـ"شقّيه"، وفقدانها الاهتمام بلبنان لانشغالها بأمور داخليّة مُلحّة وباليمن وسوريا والعراق وبمواجهة إيران بالواسطة فيها، وتخلّيها عن مبدأ حصر الزعامة السنّية في لبنان بالحريري أو أي شخص آخر، وتعاملها مع كل طرف سنّي على حدة زعيما كان أو حزبا أو جمعيّة دينيّة أو قبضايات أحياء. أوقع ذلك الحريري في تخبّط وراح يبحث عن حليف إقليمي سنّي قوي.
فهل وجده في تركيا التي زارها أخيرا؟ وهل ارتاحت السعوديّة لذلك؟ وهل أضرّ توجّهه لتركيا بحل لـ"سعودي أوجيه" كان اتُّفق عليه إذ ألغاه الملك سلمان بعدما كان أعلنه بلسانه؟ وهل صار الحريري وارث الزعامة السنّية شبه المُطلقة التي أسّسها والده في وضع ميؤوس منه؟ وهل ما قام به يعوّمه ويحفظ وحدة السنّة أم يسهّل تحوّل بعضهم إلى "الشيعيّة السياسيّة"؟ وهل التمايز حتى الاختلاف مع حلفائه المسيحيّين سيدفعه والسنّة إلى التراجع عن "لبنان أولا" وإلى إنهاء 14 آذار؟