تجاوزت الستين سنة من العمر، حدثت خلالها تحولات كبرى في العالم، وتبدلت الاهتمامات وتغيرت الأولويات، ومع ذلك لا يزال هذا الجدل العقيم حول
الحجاب مستمرا، كأنه قضية وجودية غير قابلة للتجاوز أو الهضم أو التعديل.
لقد واجهتني هذه المسألة منذ أن انخرطت في النواة الأولى التي تشكلت في تونس خلال مطلع السبعينات، والتي ستتمخض منها ما يعرف اليوم بحركة النهضة. كنت شابا يافعا، ونظرا للضوابط الأخلاقية التي يلتزم بها كل إسلامي، بدأت أفكر بشكل مبكر في الزواج.
وبما أن تونس البورقيبية قد تجاوزت مسألة الحجاب وحسمت فيها منذ بدايات بناء دولة الاستقلال، فقد سكنني يومها هاجس عندما تساءلت: من أين سآتي بصبية تونسية محجبة أو تكون مهيأة للقبول بتغيير نمط لباسها حتى تكون زوجة لي، وأكون بذلك قد تصالحت مع الضوابط التي تفرضها كل حركة إسلامية على أعضائها؟
خالجتني في البداية فكرة أن أستورد من المشرق العربي إحدى الأخوات، بحكم أسبقية المجتمعات هناك في بناء هذا النموذج الحركي والاجتماعي الذي ظهر مع تأسيس حركة الإخوان في مصر. لكن حيرتي لم تدم طويلا، حيث حصل اختراق عجيب وسريع للوسط الأنثوي التونسي شبيه بما تحقق في أوساط الذكور، تكرر ذلك بشكل مدهش في صفوف الفتيات، وهو ما شكل مفاجئة غير سارة وصادمة ليس فقط لنظام الحكم، ولكن أيضا للنخب الحديثة، ولجزء هام من الرأي العام.
تذكرت هذه الحادثة، وأنا أتابع النقاش الذي ولدته تلك الصورة التي جمعت لاعبة إيطالية ترتدي البيكيني مع لاعبة مصرية متحجبة؛ اشتركا في مقابلة الرياضة الشاطئية ضمن الألعاب الأولمبية بمدينة ريو البرازيلية. كانت لقطة جميلة ومعبرة عن تعايش جديد وممكن بين نمطين من الثقافة توصلا، ظاهريا على الأقل، إلى إمكانية العيش المشترك. لكن البعض رفض أن ينظر إلى تلك اللقطة من هذه الزاوية، وأصر هؤلاء على العودة إلى المربع الأول، مربع الصراع والتنافر، من خلال تجديد الحملة ضد الحجاب والمحجبات، ومطالبة الفريق النسائي المصري بضرورة التخلي عن هذا الزي، بحجة احترام الأزياء التي فرضتها الهيئات المنظمة للتظاهرات الرياضية الدولية، وذلك بالرغم من أن هذه الهيئات هي التي سمحت للمصريات ولغيرهن بحرية اختيار اللباس المناسب لهن.
السؤال المحير الذي لا مفر من طرحه في هذا السياق : لماذا هذا الإصرار على اختزال
المرأة المسلمة في ما ترتديه من لباس، في حين أنها تعاني من مشكلات كبرى تعتبر أخطر وأهم من مظهرها الخارجي؟
من المؤكد أن هذه المسألة قديمة، ولكنها اكتسبت طابعا إشكاليا مع نشوء الحركات الإسلامية التي أعطت لهذه القضية أولوية كبرى، وضخمتها بشكل يكاد يكون غير مسبوق، حتى كاد أن يتحول الحجاب إلى مدخل لإعادة أسلمة المجتمعات الإسلامية، بل واتخذت هذه المسألة عند جزء من جماعات الإسلام السياسي كأحد المؤشرات المعتمدة درجة عل الإيمان أو درجات الكفر. وكلما ألحت هذه الحركات على غطاء الرأس وتغطية كامل الجسم وحتى الوجه والكفين في بعض القراءات، كلما كان رد فعل خصومهم أكثر قوة ورفضا وعنفا. وهكذا تحول شكل اللباس ووجوبه من كونه جزءا صغيرا من الجدال الفقهي؛ إلى قضية عالمية وضعت لها التشريعات الملزمة أو المانعة له، كما أصبح النقاب، وأحيانا الحجاب، عاملا من عوامل حماية الأمن القومي في فرنسا أو في غيرها من الدول الغربية.
متى يتوقف الجميع عن الحديث باسم
النساء؟ فمسألة اللباس تعتبر من خصوصياتهن ومن حقوقهن. هن أحرار في ارتداء ما ترغب فيه كل واحدة منهن باعتبار أن الزي جزء لا يتجزأ من شخصية لابسه، يعكس رؤيته لذاته وذوقه وفهمه لثقافته ولخصوصيته. ولأن النساء مختلفات شكلا ونوعا، فإنهن أكثر تنوعا في لباسهن، حتى لو قام نظام حديدي وحاول أن يفرض عليهن زيا موحدا. لهذا من الخطأ اختزالهن في لغة المفرد من خلال مصطلح المرأة، وإنما الأصح هو وصفهن بلغة الجمع نساء لأنهن متنوعات حتما.
الأهم من كل ذلك هو ضرورة التحرر من هذا التبسيط المخل في معالجة القضية النسائية. هناك إشكاليات أضخم بكثير، مثل تحقيق المساواة بين الجنسين في مختلف المجالات الحيوية، وهناك المعاناة المتنوعة التي تعيشها النساء الريفيات والفقيرات والمهمشات، وهناك ضعف مشاركة النساء في الفضاء العام، وخاصة في المواقع القيادية، وصناعة السياسات، وإدارة النزاعات والتخفيف من حدة التوترات الاجتماعية.
هناك من حوّل النساء إلى ورقة سياسية، وهناك من تاجر بهن قديما وحديثا ليكسب بهن ومن خلالهن ثروات طائلة، وهناك من وصل بفضلهن إلى أعلى المرتب والمواقع. لكن في المقابل نادرا ما وجدت النساء من يحترمهن لذاتهن، ومن يرفع من حولهن الحواجز ليتمكن من فرص المشاركة والقيادة. هناك خوف يسكن أغلبية الذكور من الدخول في منافسة شريفة مع الإناث؛ لأن هناك احتقارا كامنا في النفوس لهذه الكائنات الجميلات، نعشقهن ولكن في الآن نفسه نخشى سطوتهن، ونرغب دائما أو في أغلب الأحيان في السيطرة عليهن وترويضهن حتى يبقين تابعات لا قائدات. وفي هذا المجال نادرا ما يختلف أصحاب الأيديولوجيات في هذا الشأن: الشعارات في واد والممارسات في واد آخر.