لم تكن زيارة رئيس حكومة الكيان الصهيوني إلى إثيوبيا وأوغندا مؤخرا عادية، إنما هي تتويج لجهود مكثفة من قبل المؤسسات الصهيونية في إفريقيا وإذا بها تحرك المياه الراكدة في دائرة المتابعة للتحرك الصهيوني الدؤوب في دهاليز المؤسسات الإفريقية الأمنية والسياسية.. وهكذا لننتبه إلى أن اختراقات الأجهزة الصهيونية بلغت حد الحديث عن ترشيح الكيان الصهيوني لعضوية مراقب في الاتحاد الإفريقي.. وهذا يعني انتشارا سياسيا وأمنيا واستراتيجيا في طوق العرب وساحة نشاطهم الحيوي "المفترض".
إن العلاقات الصهيونية الإفريقية تطوّرت على مراحل عدة وهي أحد مجالات السياسة الخارجية الأساسية للكيان الصهيوني منذ اليوم الأول لتشكله على اعتبار أنها هي من يكسر الحصار العربي على الكيان.. وظلت هذه العلاقات متأرجحة حسب طبيعة الأنظمة المتبدِّلة في إفريقيا وعلى وقع الصراع العربي الصهيوني.. إلا أنها تشهد تطوّرا دراماتيكيا منذ الاحتلال الأمريكي للعراق حيث بدأ الاحتلالُ الأمريكي في القارة الإفريقية بديلا عن الاستعمار القديم، وهنا وجدت كثير من الدول الإفريقية أن العلاقات الجيدة مع الكيان الصهيوني هي جسر العبور إلى البيت الأبيض..
من هنا نصاب بالدهشة عندما نكتشف حجم التغلغل الصهيوني في دائرة الاعتراف والتطبيع مع أنظمة الحكم في إفريقيا والوطن العربي؛ إذ أن 46 دولة إفريقية لها علاقات مع الكيان الصهيوني؛ أي أن نسبة تمثيلها الدبلوماسي في إفريقيا يناهز 48 من المائة من مجموع تمثيلها بالعالم، هذا فيما كنا نعتبر إفريقيا القارة المسلمة وأنها هي عمقنا الاستراتيجي.. ويكون الكيان الصهيوني قد حقق إنجازات استراتيجية في تزامن واحد على الجبهة العربية والجبهة الإفريقية، حيث تتواصل تصريحات ليفني ونتنياهو عن علاقات متنامية مع معظم الدول العربية، بل وعن تشكل حلف أمني بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والأجهزة الأمنية في كثير من الدول العربية والإسلامية، ورغم أن الذين يشهرون التطبيع والصلح مع الكيان الصهيوني لا يزيدون عن عشرة أنظمة عربية، إلا أنه على المستوى العملي لا يوجد إلا القليل من الدول العربية التي تتصدى للتطبيع والتصالح مع الاحتلال والاستعمار الصهيوني تقف على رأس هذه الدول سورية والجزائر والسودان ولبنان وهناك موريتانيا التي تراجعت عن علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني.. فيكون تغلغل منطق الهزيمة والاستخذاء قد بلغ المستوى الأعظم من النظام العربي والإفريقي..
والجملة الصهيونية التي تتقدم بها السياسة الصهيونية نحو الجميع هي "محاربة التطرّف الإسلامي" والخطر الكامن في قوى المقاومة في المنطقة، وأن "إسرائيل" هي من يمنح شهادات حسن السير والسلوك لأي جهة لتقديمها للاعتماد في البيت الأبيض الأمريكي، وعلى هذا نجد التمدّد الصهيوني في القرن الإفريقي وفي كثير من الدول العربية وغرب إفريقيا وجنوبها وشرقها مروّجة دعايات كثيرة حول وحدة المظلومية التي مرت بالزنوج واليهود.
هنا تقفز إلى الواجهة قضايا عديدة منها الفلاشا والاتجار بالماس والمعادن وتأليب الأفارقة بعضهم على بعض وبيع السلاح لكلا الطرفين المتصارعين وتقسيم البلدان وفصلها على اعتبارات عرقية ودينية والتغلغل الأمني في مفاصل الدول وتأليب بعضها على بعضها الآخر.. وتستخدم المؤسسة الصهيونية أساليب التحريض ضد الإسلام والمسلمين والتركيز على "العدو المشترك" المتمثل في العرب والمسلمين.
تعمل الأجهزة الصهيونية على أن يكون الكيان الصهيوني القاعدة الاستراتيجية في المنطقة لتحقيق الهيمنة الإقليمية وضمان استمرار الانحدار العربي، وفي هذا السياق تشكل إفريقيا إحدى ساحات الصراع الحاسمة التي سيوفر الحسم فيها الفلك السياسي والاقتصادي والاستراتيجي للانتقال من العزلة بكل عناوينها إلى دور الفاعل الأساسي في الإقليم.. وهي ترمي إلى تطويق عدد من البلدان العربية من بينها مصر والسعودية واليمن والسودان والجزائر، بطوق من الدول الإفريقية المناهضة وتأمين البحر الأحمر لصالحها وكذلك السيطرة على منابع النيل ومشكلة المياه، والجزر بجنوب البحر الأحمر، وبهذا نفهم دورهم في فصل جنوب السودان. وكذلك العمل على توفير السوق للمنتَج الإسرائيلي وعقد صفقات تسويق إنتاجها العسكري وتحقيق عمق استراتيجي للسياسة الدفاعية على الاتجاه إلى الجنوب، وذلك بالحصول على تسهيلات عسكرية في دول القارة الإفريقية باستخدام القواعد العسكرية وقواعد التجسس بما فيها المشاركة في بناء الأجهزة الأمنية لدول أفريقية..
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى دور الموساد الإسرائيلي، وهو دور كبير في عديد هذه الدول خاصة فيما يتعلق بتدعيم حركات التمرّد والمحافظة على مصالحها الأمنية في جنوب البحر الأحمر، إضافة إلى تصعيد النزاع بين بعض الدول الإفريقية. .
وتقوم المؤسسات الصهيونية بإنشاء مؤسسات عديدة متنوعة لتكوين أطر وكوادر إفريقية في شتى المجالات، كما تقدم الأجهزة الأمنية الصهيونية برامج لحماية المسؤولين الأفارقة حيث تتربع شركة "يول باريلي" وشركة "أباك" وهما فرنسيتان مملوكتان لعناصر يهودية والهدف هو إسقاط الأنظمة التي تسعى للاقتراب من العرب.. وأيضا لدعم المعارضة المسلحة في الدول التي ليس للكيان الصهيوني علاقة بها، كما أن أكبر الشركات التي تقوم بنشاط زراعي في إفريقيا هي شركة صهيونية "اغريد أب" مهمتها التطوير الزراعي وهي ذات نفوذ كبير في التحكم في الاقتصاد الإفريقي.
وللتدليل على الدور الصهيوني في محاصرة العرب والضغط عليهم تتجلى العلاقة الصهيونية الإثيوبية رائدة في هذا المخطط؛ فلأثيوبيا موقع خاص في إجماع التخطيط لدى صانعي القرار الصهيوني. إن أثيوبيا تمتاز بميزات سياسية وجغرافية وعسكرية/ أمنية فريدة في نوعها.. حاولت إسرائيل استخدام إثيوبيا للضغط على مصر من خلال شنّ الحملات المتكررة ضدها للتشكيك في حصتها من مياه النيل، والتهديد ببناء سدود إثيوبية على النيل والتي من شأنها تقليل كمية المياه التي تصل إلى الأراضي المصرية.
وحسب مراقبين فإن إسرائيل أقنعت القيادة الإثيوبية بموضوع إقامة مجموعة من السدود، ومشروعات للري على هضاب الحبشة وعشرات الكيلومترات من الأراضي الزراعية بحجة تحقيق أكبر استفادة ممكنة من مياه النيل الفيضانية، والطاقة الكهربائية لصالح إثيوبيا، الشيء الذي يأتي بمثابة تهديد لرصيد مصر من مياه النيل، وبالتالي تهديد كل مشروعات الري والكهرباء والزراعة على امتداد الوادي، ودلتا مصر.. ومن هنا تأتي العلاقات المميزة على الأصعدة كافة مع الأفارقة، تلك هي مرامي السياسة الإسرائيلية من تقاربها الحثيث مع إثيوبيا، في إطار تحقيق شامل عن الأبعاد الاستراتيجية للعلاقة الإثيوبية الإسرائيلية.. وكما هو النشاط في إثيوبيا فإن هناك نشاطا في ساحل العاج ونيجيريا وأوغندا وكينيا والغرب الإفريقي... ولا يقف في مواجهة هذه التغلغل إلا الجاليات العربية هناك ومنها اللبنانية، والمعركة بالتفاصيل كبيرة ومتعددة.
اليوم يُصار إلى دخول الكيان الصهيوني كعضو مراقِب في الاتحاد الإفريقي.. معظم دول إفريقيا ذات علاقة دبلوماسية بالكيان الصهيوني فهل تصبح "إسرائيل" دولة إفريقية؟ والسؤال نفسه يمكن طرحه على العرب: هل تصبح "إسرائيل" دولة عضوا في جامعة الدول العربية؟.. أحرار العرب والأفارقة لن يمنحوا المجرمين الصهاينة إذنا بالدخول.. تولانا الله برحمته.