كتاب عربي 21

من قصص العائدين من معسكرات داعش

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
رحم الله العميد الطبيب فتحي بيوض الذي استشهد في العملية الإرهابية التي نفذت بمطار إسطنبول وذهب ضحيتها 42 من المدنيين الأبرياء. توجه الدكتور إلى العاصمة التركية ليسعد بلقاء ابنه بعد أن تمكن من إنقاذه من براثن تنظيم داعش وأقنعه عبر السكايب بتسليم نفسه إلى الأمن التركي، فإذا بالأب يعود إلى تونس في صندوق موشح بالعلم التونسي على إثر استشهاده في تلك الحادثة المشؤومة البشعة. وفي بلاده تم تكريمه عندما شيع جثمانه بكثير من الخشوع والتقدير والاعتراف بما عرف عنه من انضباط وحسن خلق وتفان في خدمة أطفال تونس الذين كان يعالجهم بحكم اختصاصه في المستشفى العسكري. هكذا ودعه الجميع بعد أن خلف وراءه قصة إنسانية مؤثرة وصادمة.

بعض الذين يتوهمون أنهم في موقع يسمح لهم بإعطاء دروس للآخرين، انتقدوا الرجل بعد أن اخترقته رصاصات المجرمين، وذلك بحجة أن ابنه اصطف إلى جانب أعداء الوطن، وأنه هو المسؤول عن ذلك الانحراف!

للأسف، هناك كثيرون لم تعد تتوفر لديهم القدرة على التمييز بين الخيط الأبيض والخيط الأسود في فهم الظاهرة الإرهابية، وهو ما جعلهم يخلطون العائلات بأبنائهم الذين وقعوا في فخ الخطاب المغشوش، وفي أفضل الحالات يطالبونهم بمقاطعة أبنائهم وإخراجهم نهائيا من حياتهم وحتى من ذاكرتهم. أما من يفكر بطريقة مختلفة فإنه سيكون عرضة لألسن السوء.

صحيح، أن هناك من الأبناء من رفعوا السلاح، وشاركوا في قتل مواطنين تونسيين أو من جنسيات أخرى، وتحولوا إلى آلات صماء تخضع للأوامر وتقتل كل من يعترض سبيلها مثلما حصل في إسطنبول. هؤلاء تباينت ردود أفعال آبائهم وأمهاتهم. ففي عملية بن غردان التي حصلت بالجنوب التونسي قبل أشهر قليلة شاهد التونسيون ذلك الأب الذي رفض أن يستلم جثة ابنه لأنه شارك في قتل أبناء وطنه.  

أما العميد فتحي بيوض فقد فكر بطريقة مختلفة تماما. لا شك في أنه تذكر النبي نوح عليه السلام، الذي بقي يلاحق ابنه الذي أصر على الكفر، واستمر في دعوته إلى الإيمان والخير إلى آخر لحظة بعد أن غمر الطوفان كل الأرض ولم يبق أمامه سوى قمة أحد الجبال التي هرع إليها ابن نوح عسى أن تعصمه من الغرق. 

لا شك في أن الأب صعق عندما بلغه أن ابنه أخذ خطيبته واتجه نحو سوريا للالتحاق بتنظيم داعش. وبعد أن تأكد من أن الفأس وقعت على الرأس، لم يستسلم للأمر، وبقي يعتقد بأن ابنه قد سقط في بئر عميقة وأن واجب الأبوة يقتضي منه ألا يتركه يموت في تلك الحفرة رغم أن الابن هو المسؤول بدرجة أساسية عن هذا الاختيار الغريب والخطير. لهذا  حافظ على اتصال دائم به، وراهن على تربيته له إلى أن أقنعه بالقطع مع تنظيم داعش والعودة إلى وطنه.

ما حصل ليس سوى إحدى القصص المأساوية التي حصلت في تونس منذ أن ولد هذا الكابوس؛فالظاهرة الإرهابية لا تعالج فقط عبر الحلول الأمنية، كما أن هذه المهمة ليست من مشمولات الجهات الحكومية وحدها، وإنما هي مسؤولية المجتمع بكل مكوناته، وفي مقدمة ذلك العائلات التي عليها أن تبذل قصارى جهدها من أجل استرجاع أبنائها. صحيح أن عودة البعض غير مأمونة العواقب لأن منهم من يفكر في العودة بتعليمات من قادتهم بهدف إنجاز عمليات عسكرية ضد بلادهم، ومنهم من يعود ليستقطب عناصر جديدة يقع القذف بهم في أتون المحرقة، لكن في المقابل هناك من تصدمه التجربة، ويكتشف في سوريا أو ليبيا أو العراق أن ما سمع عنه مختلف تماما عما وجده على عين المكان، فتسكنه الهواجس ويشعر بالندم، ويشرع في البحث عن فرص العودة. وفي تلك اللحظة، إذا تيقن أن وطنه لن يحتضنه من جديد، وأن أسرته ستغلق أبوابها في وجهه، فعندها لن يبقى له إلا اختيار وحيد وهو أن يتحول إلى صعلوك متمرد إلى أن يلقى حتفه أو يتحول إلى مجرم محترف.

المعركة لا تزال طويلة، ومثل هذه المعارك تحتاج إلى نفس طويل. الذين يعودون يجب أن يتم إيقافهم واستجوابهم أمنيا لمعرفة كل تفاصيل التجارب التي مروا بها، والتأكد من أسباب الانقلاب الذي حصل لهم في عقولهم وحياتهم، كذلك التعرف على الوسائل التي اعتمدوا عليها للالتحاق بهذه التنظيمات، والتيقن من نوعية التدريبات التي تلقوها، وهل شاركوا في معارك جعلتهم يسفكون دماء الآخرين.. وجميع هذه المعلومات ضرورية، قبل الانتقال إلى الوسائل المعتمدة للتأكد من أن فكرهم قد تغير وولاءهم السابق قد انتهى بدون رجعة.

تحتاج جهود استعادة الأبناء من شبكات الإرهاب لصبر طويل، وتتطلب وضع خطط متكاملة ومدروسة من أجل ضمان عملية إعادة إدماج موفقة. فظاهرة العائدين من بؤر التوتر مرشحة ليتسارع نسقها، خاصة بعد الخسائر المتلاحقة التي مني بها تنظيم داعش في أكثر من بلد، إذ كلما اقتربت نهاية التنظيم تسارعت الجهود من أجل فك الارتباط وإنقاذ من يمكن إنقاذه.   
0
التعليقات (0)