ستمر السنين تلو السنين وسيأتي بعدنا من يرى تظاهرات 30/ 6 بعيون باردة صامتة ساكنة كما ننظر نحن الآن لكثير من أحداث التاريخ.. وسيكتشف المتابعون والدارسون أننا كنا إزاء ظاهرة تلفزيونية بامتياز وجيد جدا ومقبول وكل التقديرات المتاحة والمباحة.. تظاهرات لم يكن بها قدرة وطاقة للاستمرار يوما آخر إضافيا!! كانت تظاهرة للتصوير ثم للتصوير ثم لما حدث بعدها في 3/ 7 وقد كان للإعلام فيها الدور الابتدائي والاستئنافي والنهائى.. والحديث الآن عن خطورة الإعلام على قوافل بني آدم السائرة على البطحاء أصبح حديثا معادا من أمرنا مكرورا كما يقولون.
فقد أصبح الإعلام هو المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول المطلق.. وعندما يأتي مفكر بحجم الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو (1930-2002م)، صاحب الإنتاج الفكري والتأثير العملي على الحركات الاجتماعية والسياسية الحديثة ويحذرمن التأثير الاستعبادي للإعلام على براءة الإنسان في النظر إلى الأشياء.. فإننا يجب أن نتنبه ولو متأخرين إلى تلك المأساة الإنسانية التي تجلب وراءها ألف مأساة ومأساة.
بورديو يكاد يكون فرغ نفسه في العقد الأخير من حياته لمحاربة هذه المأساة البشرية المسماة وسائل الإعلام والميديا خاصة في فرنسا وشن نقداً حاداً على فساد وسائل الإعلام وتبعية عدد من المثقفين الفرنسيين الذين أطلق على بعضهم وصف "كلاب الحراسة الجدد" وبالطبع كان للتلفزيون النصيب الأكبر من هجومه، وذلك للدور الخطير الذي يلعبه في تكريس الوضع القائم وفي تفريغ العمل السياسي من مضمونه واللعب بعقول المستهلكين من المشاهدين.
انتهى بورديو إلى أن القنوات التلفزيونية أصبحت الأداة الرئيسة للضبط والتحكم الاجتماعي في المجتمعات الحديثة، ويصف هذه القنوات بأنها عبارة عن أداة من أدوات "العنف الرمزي" الذي تمارسه السلطة وشلة المستفيدين منها من الطبقات الاجتماعية التي تهيمن على هذه الأدوات وتسيرها..
فبحكم التأثير الواسع للتلفزيون يعتبره بورديو بآلياته المتعددة لا يشكل خطراً فقط على مستوى الإنتاج الثقافي من فن وأدب وعلم وفلسفة وقانون فحسب، بل بات يهدد أيضاً الحياة السياسية وفكرة الديموقراطية نفسها.. وذلك بدافع اللهاث وراء مزيد من افتراس الضحية/ الجمهور الذي قدم عقله مستسلما لهذا السحر.. (على فكره يشبه بورديو عمل التلفزيون بعمل الحواة والسحرة).
يركز بورديو وبطريقة مباشرة وحادة على الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام الحديثة وفي القلب منها ذلك الجهاز الضخم الذي يسمى التلفزيون وما تمارسه هذه الوسائل من "تلاعب وتأثير" في عقول الناس. ويبين كيف تقوم هذه الوسائل خاصة الصحف والتلفزيون بتشكيل الأفكار والوعي العام وكيف تعمل آليات توجيه وتشكيل الوعي والرأي العام؟ ومن الذي يقوم بالتحكم في تنظيم وتوجيه أو إدارة هذه الآليات.. وكيف أن الصحافة بالأساس ومن بعدها التلفزيون كان الهدف الأساسي منهما في بداية نشاطهما أن تكونا أداتي تنوير وتثقيف وتغيير للوعي والواقع لما هو أفضل أو على الأقل القيام بعملية إعلام حقيقية صادقة لكل ما يجري وفي حيادية تامة.. متى وكيف أصبحت بفعل هيمنة السلطة وقوى المال ونخب المصالح أداة تمرير لما تتطلبه السلطة؟ وإلى أي مدى ساهمت في عزوف الناس عن السياسة والثقافة وتعميم قيم الاستهلاك والسلبية والخضوع؟
ذكر الرجل أن هناك اهتمامات خاصة للتلفزيون تفرض نفسها على كل شيء في المجتمع وأخطر مجال في ذلك هو مجال السياسة ومن هنا يلعب التلفزيون دوراً حاسماً في النضالات.. سنجد أن هناك مظاهرات للتلفزيون ليس أكثر والمظاهرة التي لا يعرضها التلفزيون مظاهرة لا وجود لها.
(عيناى صدى ما في نفسي.. وبنفسي قهر لا يُقهر..
كيف أحرر ما في نفسي.. وأنا نفسي لم أتحرر...) كما قال الشاعر العراقي أحمد مطر.
التلفزيون يحتاج أيضا لأداء مهمته إلى المفكرين ـ السريعين الذين يقدمون نوعاً من التغذية تم إعدادها مسبقاً عن طريق محادثات تحضيرية مع الجمهور وهو ما يصنع الفضاء الإعلامي المتواطئ بين العاملين المحترفين في التلفزيون والمفكرين السريعين.. وذلك بسبب انتشاره الهائل ووزنه الخارق للعادة في التأثير وقدرته على اختراق غرف النوم دون إذن أو تصريح..
للتلفزيون القدرة على أن يجمع أمام أي برنامج عدداً من المشاهدين أكثر من كل أولئك الذين يطلعون على كل الصحف مجتمعين.
في رواية "عالم جديد جريء" لهكسلي والتي كان قد كتبها عام 1932م، وتنبأ فيها بدور رهيب لوسائل الإعلام والاتصال الجماهيري في التحكم بمشاعر الناس- كمسرح العرائس - وتوجيهها الوجهة المطلوبة التي تحددها السلطة سواء بطريق الخداع والتزييف والتضليل أم بطريق توجيه الاهتمام إلى موضوعات بعينها وتجنيب الاهتمام بموضوعات بعينها مع التأكيد على سطوه الدولة وقوتها..
وهو ما أدى إلى تنميط الناس وتسطيح وعيهم وتغييبهم في ضباب دائم من الأخبار التافهة والاهتمامات الركيكة.. ونجحت هذه السياسة -في مرحله الدولة الوطنية بعد الاستقلال- في التأسيس لجمهورية "الأمن والإعلام" كما سماها المستشار طارق البشري.. التي استخفت بالناس وثقتهم وأحلامهم ومشروع عمرهم في التقدم والتنمية واللحاق بركب التطور والتكنولوجيا استخفافا عارما. كأنهم غير شيء.