كأي شيء في الحياة يحتاج إلى قيادة، فإن التغيير يحتاج إلى قيادة، ولكن عن أي قيادة نتحدث؟
التغيير عملية مستمرة وليست فجائية، متواصلة وليست على فترات متباعدة، لا تعتمد على الصدمة ولا الترويع ولكنها نتاج الفعل التراكمي الذي تأتيه لحظة حاسمة يظهر فيها الأمر وكأنه يحدث مرة واحدة.
في دراسة بعنوان من الجيد إلى الأعظم "Good to Great" أجراها البروفيسور "Jim Collins" على عدة آلاف من الشركات التي حدث فيها تحول نوعي كبير، أكد فيها أن التغيير ليس هو ما نراه في اللحظة الأخيرة (النتيجة)، بل إن ما نراه هو نتيجة مجموعة من العمليات التي تحدث داخل مؤسسة ما على مدار فترة زمنية ويتم تتويج كل هذه العمليات والتحركات والإجراءات بالتحول الكبير في أدائها من مؤسسة باقية على قيد الحياة إلى مؤسسة مبهرة قادرة على إلهام البقية من زمسلاتها.
ضرب البروفيسور كولينز مثالا بمشاهداتنا لخروج الكتكوت من البيضة وقال إن المشاهد لعملية خروج الكتكوت من البيض قد يلخص العملية كلها في هذه اللحظة التاريخية التي استطاع الكتكوت أن ينقر بمنقارة الغلاف الأسمنتي الصلب المحيط به، وهي لحظة تعبر عن قوة الكتكوت وقدرته ولكن البروفيسور يعلق قائلا: "تعالوا نتابع المشهد منذ لحظة التكاثر وبدء مرحلة نمو الكتكوت داخل البيضة ولننظر هل كان الكتكوت ذا حيلة في اللحظات السابقة لنقره جدار البيضة، أم إن الموضوع استمر لفترة تشكل فيها الكتكوت وأصبح كيانا قائما بذاته وتعين عليه أن يقوم باللقطة الأخيرة التي عبرت عن قدرته أو رغبته في الخروج من طور إلى طور ومن شكل إلى شكل".
ربما ينجح كتكوت في الخروج، ولكن هناك مئات الكتاكيت التي لم تستطع أن تكمل رحلة التغيير أو تتوج نضالها وجهادها بلحظة انتصار حقيقية، والعجيب أن بعض هذه المؤسسات تندب حظها العثر لأنها لم تحدث التغيير المطلوب، وهي لن تحظى بلحظة تتويج أو نقلة نوعية في تاريخها لأنها ليست فقط غير قادرة ولكنها غير راغبة في ذلك، بل إن بعضها يقاوم فكرة التغيير من أساسه ورغم ذلك ينتظر التحول الكبير الذي سوف لمن يحدث بالطبع.
كثير من مؤسساتنا العاملة اليوم والتي مر على بعضها ربع قرن أو نصف قرن أو يزيد لا تدرك أهمية السماح بفكرة التغيير وغرس بل وحقن هذه الفكرة في عروق أعضائها، ولا تدرك أيضا أن التغيير هو الحياة وليس الاستقرار كما يروج البعض الذي تراه سعيدا وهو يقول على الملأ "الحمد لله إحنا بقى لنا سبعين سنة على وش الدنيا ولم نتغير"، وساعتها لا تدري هل تضحك على هذا الرجل الطيب أم تبكي شفقة على مؤسسات أضاعت عقود لتبقى مجرد البقاء على وجه الأرض.
المؤسسات التي لا تتحول من مؤسسة جيدة إلى مؤسسة عظيمة هي أشبه بالبيضة التي وضعت في معمل الكتاكيت ثم اكتشف أنها لا تحمل جنينا، فلا هي صلحت للأكل ولا أنتجت كتاكيت. بعض المؤسسات سعيدة بوجودها رغم أن حجم المفقود من وجودها يمكن أن يتحول إلى مزرعة دواجن لو أحسنت عملية التغيير وقادتها على نحو مختلف.
يحتاج التغيير إلى قادة ذوي بصيرة، وليس لديهم رغبة في البروز ولكن رغبة في الإنجاز، لايهمهم أن تكتب لوحات عريضة بأسمائهم وتذكر أسماؤهم بين دفتي الكتب بصفتهم القادة الملهمين أو المرشدين أو النباهين، كل ما يهمهم أن يرى الناس والمجتمع والأمة ثمرة جهادهم من أجل التغيير.
قادة التغيير ليست الرؤية هي فقط كل ما يشغلهم بل القدرة على فهم الواقع وتحليله تحليلا غير حالم أو تأملي بل واقعي إلى درجة بحثهم عن العوائق الكامنة في زوايا المؤسسات والمفارقات الفكرية والثقافية داخل المؤسسة التي يقودون عملية التغيير فيها.
قادة التغيير يتمتعون بحس إداري عال من ناحية التوظيف الأمثل للقدرات المتاحة ومن ناحية المحاسبة ووضع كل إنسان في المؤسسة أمام مسؤولياته ومحاسبته على ما كلف به وليس تركه وشأنه.
كما يتمتعون بحس استثماري عال أيضا فهم عادة ما يستثمرون في تطوير القدرات المؤسساتية إلى جانب تطوير المهارات والقدرات الفردية، فكلاهما مهم الإنسان والمؤسسة. لكن البعض يعتبر المؤسسة من المقدسات التي لا يجب لمسها وهو يضع يافطة مضيئة وكبيرة مكتوب عليها "ممنوع اللمس"، ويعتبر أن المؤسسة الأم التي أسست قبل عقود صالحة لكل زمان ومكان وهو أمر خارج نطاق العقل والمنطق.
التغيير ضرورة من ضرورات البقاء واستمرار الوجود على قيد الحياة، فلو أن البيضة بقيت كما هي بيضة لا تنتج كتاكيت لما بقي في الكون بيضة واحدة، ولكن البيض نوعان نوع يؤكل فلا يبقى، ونوع يتكاثر فينتج كتاكيت تتحول بمرور الوقت إلى دواجن تبيض هي الأخرى.
المؤسسات الحية تحتاج إلى التغيير الذي ينتج كتاكيت والمؤسسات الموجودة تكتفي بالبيض، وسوف يأتي وقت تصل فيه تلك المؤسسات إلى سن اليأس وبالطبع لن تبيض.