انقطعت المياه لمدة تجاوزت شهرين، فمات الزرع وجفت الأرض، في حين جفت الحلوق جراء كثرة الشكاوى والاستغاثات، وبعدما ضاقت بهم السبل وبلغ الكرب ذروته، قرر الناس إشهار الغضب والحزن والتوجه في مسيرة غدا (الاثنين) إلى مقر مجلس المدينة، رافعين الأعلام السوداء. وفي الوقت ذاته قدموا طلبا للتصريح لهم بالاعتصام هناك، لكي يوصلوا مظلمتهم إلى أولي الأمر عساهم يضعون حدا لمعاناتهم. كانت تلك خلاصة رسالة تلقيتها هذا الأسبوع، ووجدتها صعبة التصديق لأول وهلة. تحريت الأمر من جانبي، ففوجئت بأن الخبر صحيح، وحصّلت المعلومات التالية:
- للقصة أصل في محافظة الشرقية، وضحاياها سكان 11 قرية صغيرة يزيد عددهم على 25 ألفا. وهي تنتشر على أطراف مركز أولاد صقر ومشكلتهم مزمنة مع انقطاع المياه، التي شحت وندرت في بعضها وانقطعت تماما في البعض الآخر.
- قرية إبراهيم حسن نموذج لضحايا الانقطاع التام. إذ لم تصل إليها المياه منذ أكثر من شهرين، حتى أصبح سكانها يتيممون للصلاة، في حين انتشرت بينهم الأمراض الجلدية. وصاروا يستعينون بمياه الصرف للغسيل والنظافة.
- القرى الأخرى التي تعاني العطش والجفاف هي: العزايزة ــ أباظة ــ موسى عوض جعفر ــ الحاج حسين ــ عبد النبي ــ 15 مايو ــ حنورة واحد واثنين ــ محمد محمد ــ محمد حسين.
- في السابق كانت تصل المياه إلى هذه القرى لفترات لا تتجاوز ساعتين في اليوم، وكانوا يعتمدون بصورة أساسية على مياه الترع، وحين شحت مع تزايد أعداد السكان، فإنهم لجأوا إلى شراء المياه، خصوصا في مواسم الحصاد، حتى وصل سعر عبوة المياه (الجركن) إلى ثمانية جنيهات للواحدة.
- المياه إذا توافرت، فإنها تأتيهم معبأة في «فناطيس»، إما عن طريق مجلس المدينة أو بواسطة بعض الشركات مجهولة المصدر. وهذه المياه تستجلب من المراكز والقرى المجاورة بمحافظة الشرقية أو القرى الحدودية مع الدقهلية.
- مشكلة تلك القرى أنها تقع في نهايات الترع. في السابق كان يطبق نظام المناوبة لإيصال المياه إليها بالتناوب مع ترع أخرى، إلا أن ذلك النظام فشل بسبب انخفاض منسوب المياه وانتشار الجفاف.
- في وقت سابق أقيمت محطة لرفع المياه التي أوصلتها ضعيفة إلى بعض المنازل دون غيرها، ثم توقفت تلك المحطة تماما، وقيل في ذلك إن عطلا أصابها وأعجزها عن العمل.
- لحل الإشكال تبرع الأهالي بقطعة أرض لإقامة محطة مياه عليها، إلا أن شركة المياه رفضت ذلك بدعوى أن المسافة بعيدة بين منطقة سحب المياه وبين تجمعات الأهالي.
- أهالي القرى ــ التي تعرف بأنها توابع ــ نفد صبرهم بعدما طالت معاناتهم وأثرت بشكل فادح على حياتهم اليومية، وهم يطالبون بضرورة رفع كفاءة محطات المياه القائمة، وربطها بمحطات محافظة الدقهلية الأقرب إليهم من محطات مركز أولاد صقر الذي يتبعونه.
- شكاواهم واستغاثاتهم أرسلت إلى رئيس المدينة والمحافظة، ولكن صوتهم لم يسمع بدليل أنهم لم يلمسوا أي إجراء لتخفيف معاناتهم. وإزاء ذلك قرروا أنه إذا لم يتحرك أحد من المسؤولين، فإنهم سيعلنون التمرد والخروج (الاثنين) بالرايات السوداء إلى مقر مجلس المدينة.
قصدت إيراد هذه المعلومات التي قد تبدو تفصيلا مملا لتبيان بعض جوانب الصورة التي عكست واقعا محملا بإشارات مؤرقة وموجعة، لكنه مسكوت عنه لسبب أو آخر. وفهمت من الذين تحدثت إليهم في الزقازيق أن أهالي القرى المنكوبة أرسلوا شكاواهم إلى بعض الصحف القومية، التي تجاهلتها وحجبتها؛وكان ذلك أحد العوامل التي دفعتهم إلى تنظيم مسيرتهم إلى مجلس المدينة الاثنين. كما أن حماسهم شديد لفكرة الاعتصام لإيصال صوتهم لمن يهمه الأمر.
ليس لدي تفسير لذلك الواقع العبثي الذي أحال بعض القرى إلى صحراء جرداء ماتت فيها الزراعات واضطر الناس للتيمم للصلاة، علما بأن وسائل الإعلام تحدثت في وقت سابق عن جفاف وعطش مماثلين في بعض قرى الصعيد. ولا أعرف ما إذا كان ذلك راجعا فقط إلى انخفاض منسوب مياه النيل هذا العام، أم إن له صلة بترتيبات ملء سد النهضة الإثيوبي في العام المقبل، لكن ما أفهمه أن وقائع بتلك الجسامة تتطلب شفافية تشرح للرأي العام حقيقة ما يجري، وطبيعة الجهود التي تبذل لمعالجة الأزمة واحتواء آثارها.
من المفارقات أن تعيش 11 قرية في الشرقية هذه المحنة، ولا يلمس الأهالي صدى لاستغاثاتهم لدى قيادات الحكم المحلي في المدينة والمحافظة. أما المفارقة الأكبر فتتمثل في أن يحاصر الجفاف والعطش بعض قرى الدلتا والصعيد، في حين يشاهدون على شاشات التلفزيون إعلانات المدن والمنتجعات الجديدة التي تحفل بحمامات السباح،ة وتتوزع نوافير المياه على جنباتها.
من المفارقات أيضا أن تجلجل الأصوات والشكاوى تقرع الآذان في فضاء القاهرة إذا ما انقطعت المياه لساعات محدودة في بعض أحيائها، ولكن انقطاع المياه عن قرية إبراهيم حسن لأكثر من ستين يوما لا يسمع به أحد، ويظل خبرا منسيا يلتقطه المرء بمحض المصادفة.