هناك نقاش أكاديمي ممتد، وجدل سياسي واسع، حول علاقة الشروط الاقتصادية-الاجتماعية (مثل الفقر والبطالة) بالتطرف والإرهاب.
لكل طرف من الأطراف المعنية فرضياته وأدلّته؛ فالذين يربطون الفقر بالتطرف، يشيرون إلى المناطق التي ينتشر فيها هذا الفكر وتصعد فيها هذه التيارات، وهي في الأغلب من المناطق الفقيرة أو المهمّشة.
على الطرف الآخر، يجد الرافضون لهذه العلاقة السببية أو الطردية نماذج وأمثلة أخرى مناقضة تماما، بخاصة من دول الخليج العربي، أو حتى من أبناء الطبقات الوسطى في الدول العربية، من أطباء ومهندسين وطلبة جامعات، وأخيرا من الطبقة الوسطى العليا، مثلما حدث مؤخرا مع أبناء نواب وعائلات تمتاز بأوضاع اقتصادية جيّدة في الأردن.
سبق أن أشرنا إلى أنّ "الصورة النمطية" التي تربط "الداعشيين" أو "الجهاديين" عموما، بالفقر أو البطالة ومستوى التعليم المتدنّي، لم تعد مطابقة للواقع اليوم، على الأقل أردنيا؛ فهناك اختراق ملموس للطبقة الوسطى والمتعلّمة، ولجيل جديد من الشباب ليست لديهم "سجلاّت" ممتدة في العلاقة مع السلفية الجهادية.
ومع عدم استبعاد الظروف الاقتصادية، وهي عامل مهم وحيوي، تؤثر على أفكار الشباب، وتعزز من حالة خيبة الأمل والشعور بالإحباط، إلاّ أنّ الشروط السياسية والثقافية تلعب هي الأخرى دورا موازيا لا يقل أهمية؛ فالشعور بالتهميش (أو ضعف القدرة على الإدماج) من قبل الأنظمة السياسية العربية، يؤدي بالشباب إلى التفكير في بدائل أخرى، بالتزاوج مع سؤال الهوية الملّح عربيا، سواء في بعدها الديني أو المجتمعي أو السياسي، فشريحة اجتماعية واسعة لا تشعر بالانتماء للدولة أو المجتمع العام ستبحث عن "البديل".
ذلك "البديل" قد يبدو لنا -نحن المراقبين- عدميا فوضويا دمويا. لكن نسبة كبيرة من الشباب، الذين تقع أعمارهم في النصف الأول من العشرينيات، والغارقين في "يوتوبيا" غير واقعية حول "الدولة الإسلامية" التي تتحقق فيها عدالة السماء، ومع مناهج تعليمية وتربوية وكتب تاريخ انتقائية، فإنّ "المخيال" الذي يتشكّل حول "النموذج المفقود" يصبح خصبا، وغير واقعي، لكنّه مغر ومؤثّر على شريحة واسعة من الشباب.
الغريب أنّ تنظيم "داعش" استطاع العزف بمهارة على هذه الأوتار الرمزية، عبر استدعاء فكرة إقامة الشرع وتطبيق الدين وقيام دولة الخلافة الإسلامية، وخاطب المخيال الخصب لهؤلاء الشباب، وأصبح لديهم كأنّه المشروع الذي يبحثون عنه؛ يحلّ لهم إشكالية الهوية وأزمتها، ويخرجهم من دول لا تحكم بالإسلام إلى دولة إسلامية حقيقية، تحقق لهم المساواة والعدالة، وحلم الوصول إلى القوة في زمن الانهيار والتفكك العربي، لا تعاني من أمراض السلطة العربية في التمييز بين الشرائح والأفراد، والأوضاع الاقتصادية الصعبة، والفساد السياسي... إلخ.
من شاهد الأفلام التي نشرها التنظيم مؤخرا، يدرك جوهر هذه الرسالة الإعلامية. ففيلم "من الذل إلى العزة"، يتحدث عن المهاجرين الأفارقة إلى ليبيا، الذين يعدّون هذا المشروع حلمهم الموعود. وكذلك فيلم "ليتم نوره" عن ولاية صلاح الدين في العراق، وإقامة ما يعتقد التنظيم أنّه "شرع الله"!
من هذا المنظور العميق، من المفترض أن ننظر إلى "داعش" بوصفه مشروعا بديلا لآلاف الشباب. فلسنا أمام ظاهرة بسيطة، بل معقدة، ومواجهة مثل هذا المشروع الوهمي الخادع (لأنّه فقط متوهم ليس واقعيا منفصل عن منطق العصر وروحه) تتطلب شروطا واقعية وليس خطبا عصماء؛ تتطلب أنظمة سياسية تعمل على إدماج المواطنين، وليس تهميشهم، وعلى جذب الشباب وملء وقت فراغهم، وعلى تحقيق المساواة القانونية، وعلى خوض معركة "التأويل" عبر مناهج الوعظ والتربية والتعليم، وخطط حقيقية لمواجهة كارثة البطالة.. إلخ.