ما حدث في البقعة، أو قبلها في إربد، يمكن أن يحدث، أو يتكرر، لا قدر الله، في أيّ مدينة أو محافظة أردنية أخرى. وهو جريمة لا يمكن ضمان عدم حدوثها، أيّا كانت قدرات وكفاءة الأجهزة الأمنية في أي دولة في العالم؛ طالما أنّ هناك من يحمل حزاما ناسفا يريد أن يقتل نفسه، أو يمسك بسلاح يطلقه على الآخرين في الشارع، أو على من يحرسون مبانيَ حكومية، أو رجل أمن يقوم بمهماته الاعتيادية، كما حدث على بوابة البرلمان الكندي، أو مع شرطة فرنسيين، أو في مقهى أسترالي أو ملعب كرة قدم فرنسي.
في النهاية، تطوّرت قدرات هذه التيارات والجماعات على تنفيد العمليات، وفي اختراع مفهوم "الذئاب المنفردة".
يمكن، وهذا ما حدث في الأردن، تحجيم قدرة "القاعدة" أو "داعش" على تنفيد عمليات خطيرة معقدة، مثلما حدث في تفجيرات عمان العام 2005، عبر ما يمتلكه جهاز المخابرات من قدرات على المراقبة والتتبع واختراق هذه الجماعات والتيارات. لكن مثل هذا النمط من العمليات الفردية، فإن منعه تماما أمر لا يملكه أي جهاز في العالم.
إذن، علينا أن نفتخر بشهداء الوطن ونفخر بهم، وبزملائهم الذين يضحّون بحياتهم ويدفعونها ثمنا لحماية الجميع، وأن نقف إلى جوار أسرهم وعائلاتهم، فلولا هذه التضحية لما استطعنا الصمود والبقاء والاستمرار في حياتنا اليومية في ظل هذه الظروف الإقليمية القاسية، وفي ظل تطوّر وتنامي قدرات التنظيمات والمجموعات الداعشية.
لم يكن هناك اختراق أمني، ولا ضعفٌ -بالضرورة- في الرقابة، لأنّك لن تسيطر على "نوايا" الناس، ولن تعرف ما في داخلهم، ولن تستطيع أن تعتقل الجميع بسبب أفكارهم. لكن المشكلة الحقيقية، وهي التي من المفترض، بل الواجب، أن نعطيها اهتماما نوعيا كبيرا، تتمثّل في انتشار هذا التيار وأفكاره بين شريحة من الشباب، واختراقه لمجموعات منهم، غير محصّنة فكريا ونفسيا.
مرّة أخرى، الخطر الحقيقي لداعش ليس من الخارج، بل في الداخل. فهذا الفكر أصبح فيروسا خطيرا، يختطف أفكار شباب وأرواحهم، وتخسرهم أسرهم. ولدينا تقديرات متفاوتة ما بين 1500-2500 لعدد الشباب الأردني الذي انضم إلى كل من "داعش" و"النصرة"، ومئات في السجون، وتضاعف عدد أنصار التنظيم ومريديه في الساحة الأردنية.
المؤشرات الأكثر قلقا تتمثل في قدرة هذا "الفكر" على الوصول إلى الطبقة الوسطى والطلبة والمتعلمين، بصورة أكبر مما كانت عليه الحال سابقا، وفي إيجاد موضع قدم في مناطق جديدة، مثل إربد وعمان الشرقية والمخيمات.
المقاربة الأمنية-العلاجية ما تزال قوية وفاعلة في تحجيم قدرات وعمليات هذا التيار. لكن نقطة الضعف الحقيقية هي في المقاربة الوقائية، التي تعتمد على الجوانب الثقافية والإعلامية والسياسية، بالرغم من كل المؤتمرات والندوات التي عُقدت، والاستراتيجيات التي وضعت؛ فمن الواضح أنّ كل ذلك ما يزال سطحيا واحتفاليا، وليس جهدا حقيقيا لاكتشاف الأسباب والعوامل التي تسهّل عملية اختراق الشباب والتأثير عليهم.
الاستراتيجية الرسمية لمكافحة التطرف، والتي وضعتها الحكومة السابقة، فاشلة بامتياز، وغير جدية ولا مقنعة، ولم يرض عنها "مطبخ القرار"، لذلك تمّ التفكير في وزارة الشباب وإعطاء دور لوزارة الثقافة. لكن ما هو أهم من هذا وذاك المضمون والسياقات، وليس الهياكل والمؤسسات.
ما يزال حجم الخطر الداخلي محدودا، لخبرة الأجهزة الأمنية وجهودها. لكن هذا لا يكفي. إذ من الضروري أن نفكر جديا بالجهود النوعية في فهم الفكر وتفكيكه، والبحث في شروطه وأسبابه، وفي تبني خيارات تحصّن الشباب وتساعدهم على إيجاد خيارات واقعية وعقلانية أولا، وفي فتح الباب لاستعادة نسبة منهم ممن اختطفهم التنظيم.
عن صحيفة الغد الأردنية