قضايا وآراء

بريطانيا وأفق الانسحاب من الاتحاد الأوروبي

محمد مالكي
1300x600
1300x600
تُجمِع الطبقة السياسية في بريطانيا على أن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه أولويةٌ بالغة الأهمية، وأن مرورَ أكثر من أربعين سنة على آخر استفتاء حول الانضمام إلى الفضاء الأوروبي (1975) مدةٌ كافيةٌ لإفساح المجال لقاعدة واسعة من البريطانيين للتعبير عن رأيها في الاستمرار أو الخروج من الاتحاد الأوروبي. فبغض النظر عن الاختلاف بين دُعاة الانسحاب وأنصار الاستمرار، ثمة حاجةٌ مُلحة لإعادة النظر في ميزان الأرباح والخسائر التي أفضت إليها أربعة عُقود من عُضوية بريطانيا في مؤسسات الاتحاد الأوروبي. فسواء تعلق الأمر بالمؤسسة الملكية، أو برئاسة الحكومة، أم بالمعارضة البرلمانية، أو بالرأي العام البريطاني، ثمة خطاب واحد يدعو إلى إجراء استفتاء عام يُدلِي البريطانيون خلالَه برأيهم الحر والإرادي في شأن بقائهم أو انسحابهم من الفضاء الأوروبي قبل نهاية 2017.

ليتذكر القارئ الكريم بأن بريطانيا ظلت مستبعدةً من الجماعة الاقتصادية الأوروبية، ولم تُصبح عضواً فيها حتى سنة 1975، علما بأن معاهدة روما المؤسِّسَة للفضاء الأوروبي تمَّ التوقيع عليها عام 1958. والواقع أن أسباب ذلك لم تكن خاصة بطبيعة النظام السياسي، فبريطانيا أمُّ الديمقراطية ومصدر نشوء الفكرة البرلمانية في عُموم أوروبا، كما لم يكن ذلك مرتبطاً بالاقتصاد الحر والثقافة المتحررة، فدرجة تطورها في هذين المجالين كان مبكراً ومعترفاً به، بل كانت عِلّةُ ذلك في أن بعض الأوروبيين، وفي مقدمتهم فرنسا على عهد أب الجمهورية الخامسة "الجنرال ديغول"، كان يعتبر بريطانيا جزيرة مستقلة خارج المدار الأوروبي، وأن بحر "المانش" خط فاصل بينها وبين بقية الأوروبيين، لذلك اعترض على انضمامها، ولم ينطلق التفكير في التحاقها بالركب الأوروبي إلا بعد استقالته سنة 1969. وليتذكر القارئ الكريم أيضا أن مسار بريطانيا حتى بعد التحاقها بالجماعة الأوروبية وصيرورتها عضواً كاملا ًبالاتحاد الأوروبي، اختارت إراديا البقاء خارج منطقة "اليورو" وفضاء "شنغن".. ولعل هذا ما يُفسر جزئيا الارتياب المتبادل بين البريطانيين وغيرهم من الأوروبيين.

لكن، بالمقابل، يصعُب أن يتصور المرء أن يكون انسحابُ بريطانيا من الاتحاد الأوروبي خياراً سهلاً أو دون تأثيرات عميقة على البريطانيين وشركائهم الأوروبيين، والتوازنات العالمية. ومن هنا تتناسل الأسئلة الكبرى حول أفق الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي إن وَجدَ طريقَه إلى التحقق.. ومن هنا كذلك نفهم درجةَ الخوف المتصاعد إلى حد الرعب داخل قطاعات وازنة من المجتمع البريطاني، وفي دوائرِ شركائهم من الأوروبيين والغربيين عموما. 

يتزعم ديفيد كاميرون زعيم حزب المحافظين، ورئيس الوزراء الحالي المنادين بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، والمتخوفين من خطورة التفكير في الانسحاب أو الاستفتاء لصالحه. وحجة في ذلك أن بلده سيخسر أكثر مما يربح، سواء اقتصاديا وتجاريا وماليا، أم سياسيا وثقافيا. لكن لم يتوقف "كاميرون" عند زرع الخوف في نفوس مناضلي حزبه، ولجم طموحاتهم إلى الخروج من الاتحاد، بل وَعدهم قبل انتخابات مايو 2015 بالضغط، إن فاز في ولاية ثانية، في اتجاه تحسين موقع بريطانيا التفاوضي داخل الفضاء الأوروبي، وهذا ما حصل فعلا، حيث فاز حزبُه بالأغلبية، وفتح الباب لزعيمه بقيادة العمل الحكومي لولاية ثانية. ثم إن الأفق غير الواضح للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لم يُخف الساسة ورجال الاقتصاد والمال والأعمال فحسب، بل أخاف العلماء والمفكرين وقادة الرأي مما سيخلف من آثار وخيمة على مكانة بريطانيا في عالم العلم والمعرفة والتربية والتكوين. 

لنفترض جدلاً أن تخوفات رئيس الوزراء "دفيد كاميرون" لن تجد طريقها إلى قلوب البريطانيين، وأن حماس هؤلاء قادهم إلى التصويت لصالح الانسحاب، فما الذي سيترتب عن هذا الاختيار من تداعيات ونتائج؟ 

ثمة مصفوفةٌ من الآثار سيُفضي إليها قرارُ الانسحاب، وهي في عمقها عامة وشاملة، وغير مقتصرة على جانب بعينه، أو قطاع بذاته. فمن جهة، ستتقلص مكانةُ بريطانيا الاقتصادية بسبب تقلص فضائها المشترك، الذي يضم ثمان وعشرين دولة، وإن لم يكن البريطانيون منتسبين لاتفاقية "شنغن". كما سيفتح خيار الانسحاب البابَ أمام اسكتلندا، الأكثر ولاءً لأوروبا من بريطانيا، للمطالبة بمغادرة المملكة المتحدة، وربما سيشجع حزب "الجبهة الوطنية" اليمينية في فرنسا على الضغط على قادة هذا البلد من أجل التخلي عن الاتحاد الأوروبي.. ومن يدري ستتوسع دائرة المنادين بإنهاء مسيرة الفكرة الأوروبية الموحدة. والحقيقة أن خيار الانسحاب، إن تحقق، لن يكون إضعافاً للبريطانيين، بل سيُضعف الأوروبيين بأكملهم، وسيحولهم من كتلة اقتصادية ومالية وازنة في العالم، وقوة سياسية مؤثرة في العالم، إلى فسيفساء من الدول لا وزنَ ولا تأثيرَ لها. ومن هنا يظهر التأثير المحتمل، في حالة ما إذا تحقق أفق الانسحاب، على السياسة العالمية إجمالاً، ليس من زاوية الاقتصاد وما يرتبط به، بل أيضا من ناحية السياسة والإدارة المشتركة للعالم. 

لا شك في أن للأزمة المالية والاقتصادية التي اندلعت نهاية 2008 وبداية سنة 2009، دوراً مباشرا في ما حصل ويحصل في أوروبا من نزعات الانفصال بداخل الأقطار وما بين الأقطار، ولا شك في أن الآفاق غير واضحة بما يُقنع بأن العودة إلى ما قبل الأزمة قريب ووشيك الوقوع، لكن من الأكيد أن الحِكمة التي أخرجت الفكرة الأوروبية من رماد الحروب، وأنهار الدماء، وأعطتها روحاً جديدة، وأمدتها بالحياة والاستمرارية، ستنتصر لخيار البقاء والاستمرار والتجديد والتطوير، وستُجنب الأوروبيين كل الأوروبيين أفق الانسحاب والخروج من الفضاء الأوروبي المشترك.
التعليقات (0)