قضايا وآراء

هل يمكن للبحث العلمي أن يكون أداة لمقاومة الاحتلال؟

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600

تعلمنا منذ نعومة أظفارنا كلمات هي شذر من الذهب في ما يخص الحبيبة الغالية فلسطين.. علمنا الأجداد والآباء والمربون والدعاة والمصلحون "أنك عندما تقاوم، فإنك تقول إنك هنا في أرضك". ومقاومة المحتل أمر اجتمعت عليه جميع الشرائع السماوية والقوانين الأممية الوضعية، فلا يشكك في ذلك إلا منافق معتد معاون للاحتلال فضلا عن المحتل نفسه. 
 
وبالطبع، فإن هناك أدوات مختلفة لمقاومة المحتل، ومنها البحث العلمي. وإذا كانت هناك أداة لمقاومة المحتل فلا بد من أن تتوفر فيها مجموعة من الشروط، ومن أشد هذه الشروط  أولوية ألا تكون الأداة هي في ذاتها أداة لأصحاب هوى ومصالح ذاتية وأخرى دخيلة خارجية. ولا بد أيضا أن تكون تلك الأداة محددة المناط ضمن مجموعة من الأهداف التي تحكم تحقق ذلك المناط. فلا يمكن مثلا أن تكون الأداة أن تزرع برتقالا وتدير خدك الأيمن ليلطمه المحتل، ثم بعد ذلك تدير له خدك الأيسر ليلطمه، وهكذا دواليك. هل ذلك كله  لكي تحقق هدف أن يقال إنك تقاوم بطريقة حضارية يرضى عنها من تخطب ودهم وساعدهم؟ وعندها، تغدو ممن لا ينطبق عليهم المثل الشعبي القائل "تيتي تيتي، مثل ما رحتي جيتي"، بل نمثل لتلك الحالة بقولنا "تيتي تيتي، ياريتك ما رحتي ولا جيتي ولا خربتي من قبل تيتي". 
 
وهنا تبرز على الساحة أربعة أسئلة مهمة تنبثق من دراسة فرضية، أن "البحث العلمي أداة من أدوات مقاومة الاحتلال"، وقد عمدت إلى كتابة جملة هذه الفرضية بطريقة علمية تبعا للتأصيل العلمي لطريقة كتابة الفرضية عموما. وقبل أن نطرح هذه الأسئلة الأربعة، فإنه ينبغي التنويه إلى أن هذه الأسئلة تحتاج بحد ذاتها إلى بحوث عميقة ربما تصلح رسائل بحثية لدرجتي الماجستير والدكتوراه في أسس البحث العلمي والتخطيط له تحت الاحتلال. هذه الأسئلة هي:
 
أولا:  ما هو البحث العلمي الذي ننشده كي يكون أداة لمقاومة الاحتلال؟
 
ربما ظن البعض أن هناك أبحاثا علمية لا يجب أن تطرق وألا يهتم بها في ظل الاحتلال، ولا شك في حاجتنا لتحديد الأولويات في ما يتصدر بحثنا العلمي. فهل هناك أولوية في البحث العلمي أكبر من محاولة دراسة عدوك وفهمه استراتيجيا على جميع الأصعده؟ وتبقى الحقيقة الأساس، أنك إذا قمت بالبحث العلمي فإنك تقول من أنت، ونتائج بحثك سوف تتصدر المعرفة علميا وعالميا إذا كانت ذات تأثير. وبهذا، فإنك إن قمت بالبحث العلمي في ظل الاحتلال، فإنك تقول للمحتل والعالم كله إنك هنا في أرضك، وإنهم هناك يعرفون من أنت، وعندها يكون بحثك العلمي مقاومة للاحتلال. 
 
بالطبع هناك أبحاث علمية نحتاجها أكثر من غيرها خاصة ونحن في ظل الاحتلال، فمنها أبحاث قصيرة الأمد، وأخرى طويلة الأمد ترتبط بالحاجة الماسة لما نتج وينتج ويعاني منه الشعب المحتل؛ كي يحافظ على أهم أسباب بقائه وتمسكه بأرضه وترابه. فمثلا، ألسنا بحاجة لأبحاث هندسية معمارية مدنية كهربائية ميكانيكية وغيرها، لدراسة كيفية المحافظة البنيوية على مباني مدينة القدس ومرافقها ومنشآتها في البلدة القديمة وغيرها ومن حول المسجد الأقصى؟ الآلاف هناك صامدون مرابطون في ظل تضييق من المحتل الذي يركلهم في أشنع طرق ابتزاز داخلي وخارجي، مضيقا عليهم عيشهم، فلا يستطيعون التوسع في البناء أو إعادة التخطيط. فلماذا لا يتصدر مهندسو الجامعات وأساتذتها في فلسطين المحتلة بأبحاثهم الممنهجة المحددة الأهداف؟ ولو توسعنا في الحديث امتدادا لغزة العزة لوجدت مشاكل المياه وتوليد الطاقة والتصنيع من كبرى أولويات البحوث العلمية المناطة في سلم الأولويات.
 
ولا بد لنا أن نسجل شهادتنا لمجهودات بحثية علمية في فلسطين تكاد تكون متميزة في بعضها، ولكنها لا ترقى للمستوى المناط، ويشكر ويقدر جهد الباحثين ونتاجهم. وحتى لا يكون هناك مجرد البحث في الجانب العلمي الهندسي الملحة له الحاجة، فإنه لا بد من إجراء البحوث العلمية في الجوانب التربوية والإنسانية وغيرها، وما يخص المجتمع وتطوره تحت الاحتلال وتطور أنماط الحياة وتأثير العوامل الداخلية والخارجية وغيرها. ولن نغفل القول، بل نشدد  على أننا بحاجة إلى أن نبحث في ما يخص العلوم عموما، وأن يكون في ظل الاحتلال علماء في الدين واللغة والتأريخ والاقتصاد والسياسة وغيرها، يثرون العالم كله بنتائج أبحاثهم، كي تتحقق بهذا مقولتنا: "نحن نبحث، فنحن نقاوم، فنحن هنا"؟!
  
ثانيا: من يجب عليه أن يتصدر قيادة التخطيط للبحث العلمي وتنفيذ الأبحاث المناطة كآليات لمقاومة الاحتلال؟
 
ربما ينظر البعض إلى هذا السؤال على أنه بسيط وربما ساذج في تكوينه، ولكني بكل تواضع المحب لقارئ هذا المقال، أقول إن هذا السؤال هو أزمة أمة ليست فقط تحت الاحتلال بل خارجه. للأسف، إنه إذا وجد من يتصدر التخطيط للبحث العلمي عموما - ونحسب أن هناك أناسا متميزين ولا نعمم القول - فلا يأخذ هؤلاء التخطيط للبحث العلمي على أسسه بدراسة استراتيجية لما هو مطلوب لأمة وكيان. ويعجبني كثيرا نموذج المفوضية الأوروبية في طرحها لتمويل مشاريع بحثية في حقبات زمنية مؤطرة مضت مثل إف بي 5 (FP5) وإف بي 6 (FP6) وإف بي 7 (FP7) ومن ثم الإطار الحالي هورايزون 2020 (Horizon 2020) لتمويل الأبحاث العلمية، مشاركة بين الجامعات ومراكز الأبحاث والصناعة وفق أولويات بحثية يحددونها مسبقا.
 
وإن الملفت المثير للانتباه لنا كأمة (وأسجل تقديري لطريقة المفوضية الأوروبية في تمويل البحث العلمي)، أنهم يدعمون دولا غير أوروبية ومنها دول العالم العربي ماديا، وذلك إذا اشتركت تلك الدول مع دول أوروبية في مجال البحث العلمي حسب الأولويات والشروط المحددة. تلك رسالة تخلينا عنها في عصرنا الحديث، كيف وقد أمرنا رب العزة والجلال في كتابه الكريم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة-2)؟ وعلمنا رسول الهدي عليه أفضل الصوات وأتم التسليم، كيف أن إبن آدم إذا أراد أن يستمر ارتباطه في هذه الدنيا ليعمرها، ليس فقط وهو حي بل ليمتد وهو ميت في قبره، فإن ذلك يكون ضمن أحد ثلاثة أمور، منها أن يترك بعد مماته علما  لمن خلفه ينتفع به. 
 
وفي ظل الاحتلال البغيض يكون الأمر أكثر شدة في وطأته، فأين تكون القيادة في التخطيط للبحث العلمي؟ ولمن؟ ولا يتبادر للذهن أكثر من حديث رسول الهدى في رواية عن البخاري ومسلم: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، -قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ- وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
 
 فمن هم هؤلاء "المسؤولون"؟ بالطبع هناك جامعات وأساتذة وباحثون، وحتى تحت الاحتلال يمكنهم العمل سوية لتحديد مناطق بحثية مشتركة وأولويات تجمعهم حتى ولو كانت الإرادة السياسية مشتتة، وليست معنية بالبحث العلمي وربما تعتبره رفاهية في ظل الاحتلال. 
 
ولا بد لي وللأمانة مع النفس أن أستدرك على كثير ممن يمنحون البعثات للدراسات العليا من خلال  مؤسسات علمية أو خيرية أو إقليمية أوروبية وغيرها. هؤلاء في كثير من الأحيان قد أعطوا تلك المنح ليعودوا إلى أرض بلادهم المحتلة بعد إنهاء دراستهم وتعلمهم طرق البحث العلمي المنهجي الحديث، في الوقت الذي أخذوا فيه الفرصة للدراسة من غيرهم. إنك لتفزع مما ترى وتسمع حين تجد أنهم أرادوا ويريدون البقاء وعدم العودة لأرضهم، فتأخذهم زينة الحياة الدنيا -مثل غيرهم - في البلاد الغربية وغيرها التي جاءوا إليها. فلا بد أن يدرك هؤلاء أنهم لم يلتزموا بالعهد الذي التزموا به أولا، في الوقت نفسه الذي قد أضاعوا فيه الفرصة على غيرهم، وتجدهم يتركون فراغا تحتاجه الأجيال القادمة في بلادهم تحت الاحتلال.
 
وقد يتعلل البعض بجود تكدس من العاطلين عن العمل في ظل الاحتلال. هنا تتصدر أسئلة كثيرة لا يسمح الوقت ولا المساحة لطرحها في هذا المقال، بل إنها تحتاج لمن يأخذها للتخطيط الاستراتيجي.. كيف يتم التصريف الحكيم للمنح التعليمية البحثية في ظل الاحتلال، وخصوصا التي تقدمها الهيئات الخيرية والجامعات العالمية. وقد تكون الاستراتيجية البعيده لهؤلاء الزملاء أن يخرجوا من واقع الاحتلال ليعيلوا أنفسهم وأسرهم، وبذلك نكون قد فقدنا المناط الأصيل لتلك المنح الدراسية، وهو في الأصل ليس اقتصاديا، حيث تستخدم قنوات الصرف على البحث العلمي لأهداف أخرى وإن كانت طيبة في مقصدها.
       
ثالثا: ماهي العوائق والتحديات التي يمكن أن تحول بين البحث العلمي كي يكون أداة لمقاومة الاحتلال؟ 
 
وحتى نستطيع المحاولة لبلورة طريق وليس حلولا لما يقتضيه هذا السؤال، فإنه ينبغي التفريق بين العوائق والتحديات. فهناك عوائق يفرضها عليك المحتل وهناك عوائق ذاتية من الأشخاص أنفسهم، وهناك عوائق يتسبب بها من يتصدرون دفة القرار الفئوي الذي يتبع هذه الفئة أو تلك وبذالك لتكريس المقسم والمجزأ أضعافا. ولن أكون مبالغا إذا قلت إن العوائق الاحتلالية أقل عبئا من هذين النوعين الأخيرين من العوائق، فعلى الأقل إننا نعرف من هو عدونا؟ ولكن عندما تكون أنت نفسك عدوا لنفسك ومجتمعك تحت الاحتلال، فإن ذلك خطر عظيم كالسرطان ينمو وينتشر، بلا آلية تحدد مساحته ولا حجم تكاثره. والشواهد على ذلك كثيرة تجدها تحت الاحتلال وخارج الاحتلال. ومن أشد ما شاهدت التحوصل الذاتي (ليس عند القليل) في البحث العلمي لمن يحملون شهادات الدكتوراه لغاية أهداف شخصية؛ للترقيات من أستاذ مساعد لمشارك ثم للأستاذية. والمدمي للقلب أنك لا تجد بحوثا علمية رصينة في كثير من الأحيان تستطيع وصف من يحملها أنه أستاذ متخصص في مجال دقيق جدا - وهذا هو ما جرت عليه أحد مقاصد الأستاذية. فكيف لهؤلاء أن يحملوا هم أمة في البحث العلمي وكيف يمكن أن يحملوا ذلك الهم، بل يستطيعوا أن يقدموا بحوثا رصينة في علمهم وتخدم حاجات مصيبتهم وهم تحت الاحتلال؟ ومن ثم، ما هو مصير الأجيال التي يقود فيها هؤلاء الأساتذة دفة التعليم لهم تحت الاحتلال وحتى خارج الاحتلال؟ 
 
وأما عن التحديات فهي متنوعة الألوان والتمحورات؛ فمنها تحديات اقتصادية بحتة بسبب ضعف التمويل والحالة الاقتصادية في ظل الاحتلال، ومنها تحديات بسبب نقص المستلزمات والأدوات والأجهزة المطلوبة للبحث العلمي في تخصصات مختلفة. وهناك تحديات تفرضها عليك قيود داخلية أو خارجية لما تستطيع البحث فيه وتطويره، وقد يبدو للبعض أن ذلك معضلة، ولكن العلم والبحث العلمي علمنا ألا حدود للإبداع وعادة تكون الحاجة أو الاختراع، كمن يقطع عنك طاقة لتوليد كهرباء أو يحاصرك فيمنع عنك الدواء، فعندها تبدع في توليد الطاقة وصنع الدواء.
 
رابعا: كيف يمكن تخطي تلك العوائق والتحديات كي يتفعل دور البحث العلمي في مقاومة الاحتلال؟
 
إذا كنا قد أجدنا تحديد وتعريف وتوصيف العوائق والتحديات، فقد نجحنا في التشخيص ومهدنا الطريق للعلاج. وقبل هذا وذاك ينبغي أن ندرك ونضع نصب أعيننا أن نحد من تحكم الهوى وحب الذات والأثرة (أي معالجة فساد الذات) ليس فقط في التخطيط للبحث العلمي، بل في تنفيذ صياغة نقلة منهجية علمية في البحث العلمي للأجيال القادمة، فيكون عندنا الاعتماد الذاتي للقيادة و صناعة البحث العلمي. وهذه القضية مرتبطة بتغير الأولويات ووسائل التمويل المادي للبحث العلمي، ولكن قبل هذا ينبغي عمل عصف ذهني لكل عائق وتحد في دراسة متكاملة. الأدوات أو الآليات كثيرة ولكن ينبغي إحسان توظيفها، ومنها مشاركة الصناعة في الداخل والخارج، دعم البحوث عن طريق مجالس تمويل البحث العلمي المحلية والإقليمية والدولية مثل: مجالس الأبحاث في الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي، وشبكات الباحثين عالميا، الذين عندهم تمويل لبحوث معينة حسب مشاريع أبحاثهم التي يديرونها، وتمويل المؤسسات الخيرية لمشاريع أبحاث لحاجة الإنسان تحت الاحتلال، والتعاون مع الجامعات والمراكز البحثية المحلية والإقليمية والدولية، إلخ.  
 
ومما لا شك فيه، أن القابع تحت الاحتلال تتخطفه منظومات داخلية وخارجية لها أهدافها، ومن أسماها بقاء المحتل لتحقيق أهداف تلك المنظومات التي لا تخفى على الطفل الصغير قبل بلوغه الحلم. فلا بد أن تعتري من يريد التقدم في الخطى نحو البحث العلمي - كأداة من ضمن أدوات كثيرة للمقاومة - تساؤلات كثيرة ذكرت أربعة من منها، ربما هي في سلم التساؤلات، ولكنه يبقى لدينا قاعدة ذهبية علمنا إياها رسول الهدى عليه أفضل الصوات والتسليم حيث كل في خندق مسؤوليته. 
 
فمن تسلم العلم والبحث وتمركز في كرسي بحثه فليسأل نفسه، هل هو راع ومسؤول عما يقوم به؟ 
 
وقبل أن أختم بكلمات في ما يخص عنوان المقال الذي هو تساؤل في ذاته، فإنه لا بد لي قبل الختام أن أدعو لسؤال آخر: ماذا نحن فاعلون في ما يخص تأطير النزاهة في البحث العلمي، التي نحن أولى بها قبل غيرنا، أمة الخيرية التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر مدفوعة بإيمانها. 
 
 وأختم القول بكلمات في ما يخص عنوان المقال الذي هو تساؤل في ذاته: نحن نبحث، فنحن نقاوم، فنحن هنا أمة.
 
رحم الله أولي النهى والألباب، ورفع الله الذين أوتوا العلم فعملوا به وأصلحوا درجات … 
التعليقات (0)