ليست منطقتنا العربية الإسلامية بخير، ولا يلوحُ في الأفق المنظور انعطافها نحو وضع جديد يُعيد لها استقرارها، ويمُدُّ مجتمعاتها بتباشير تحسّن أوضاعها، وتغيُّر ظروفها نحو الأفضل، بل من المُحزن حقّا أن تكون دائرتُنا الحضارية أكثر دوائر المعمور صراعا، وعُنفا، واقتتالا، وتقهقرا، ليس على مستوى البناء والعُمران فحسب، بل كذلك على صعيد قيم التسامح، والتكافل، والقدرة على العيش المشترك.
لاشك أننا نعيش حقبةَ نكوص عَزَّ نظيرُها، ونحصد كل يوم نتائجَ تقصيرنا في إفسال روح الاجتهاد في ديننا ودنيانا، بل إن المرء ليَحار وهو يرى ما يجري من حوله، ويستحضرُ بتقدير كبير ما قدّمَ فضلاء من علمائنا من جليل الأعمال خدمة لإشاعة قيم
الإصلاح والتحديث والتنوير في تراث مجتمعاتنا. أقول هذا وأنا استحضر أحدَ أعمدة هؤلاء العلماء الإمام "محمد عبده" (1849 ـ 1905)، وأكثرهُم عمقا في الدعوة إلى الإصلاح والتجديد.
جدير بالتأكيد أن الإمام " محمد عبده" لم يكن داعية، بقدر ما كان صاحب مشروع ومنهج متكاملين لإعادة امتلاك التراث والاجتهاد في مظانِّه كي يستقيم ويقوم بواجباته لرفعة الأمة، وإمدادها بمصادر القوة. والحقيقة أن منهج الإمام وعطاءه الفقهي والمعرفي لم يكونا مُوجَّهين لذوي السلطة أو من يقومون مقامهم، بل كانا مُعدَّين لخدمة المجتمع، وتنوير أفراده. ومن هنا تظهر المكانةُ التي حظي محمد عبده بالنسبة لمن سبقه أو جاء بعده من المصلحين؛ لذلك، لم يكن الإمام ناصحا على شاكلة منتجي كتب الحكمة السياسية أو " الأدب السلطاني"، بل كان مُعبِّئا للمجتمع، و داعِما لمطالبه في أن يعيش أفرادُه متحررين من ازدواجية الاستبداد في الداخل "السلطة السياسية " والخارج (الاحتلال). ألم يؤصِّل فكرةَ " المدنية الإنسانية"، المستقاة من أصول الإسلام، كي يُقنع المسلمين بأن لهم حقوقا يتوجب عليهم الدفاع عنها، وممارستها، وصيانتها من أي مغتصب كان في الداخل أم في الخارج؟
ينطوي منهج محمد عبده على الكثير من الجوانب التي شكلت مناط رؤيته، ودوائر مشروعه الفكري الإصلاحي، وسيكون مجحفا الإلمام بها كلها في مثل هذا الحيز. فاجتهادات الإمام توزعت بين التأصيل المعرفي للإصلاح والنهضة، والعمل على تجديد الفكر الإسلامي، والانخراط في معترك الحياة السياسية واقتحام ميادين الإصلاح ومؤسساته. وعلاوة على كل ذلك، ظل محمد عبده، الفقيه
الأزهري، مؤمنا بالعقل، ومرجحا له، ومنفتحا على غيره من العلماء والمجتهدين بغض النظر عن أديانهم وِملَلهم، يستمع إليهم، ويحاورهم، بل ويحاججهم ويستفيد من مَعينهم الفكري والمعرفي، ولم يكن قط متعصبا، ولا منتصرا لدينه وتراثه بغير حق، بل كان يروم الحقَّ للدفاع عن دينه وتراثه.. فأين نحن من هذا الفقيه الأزهري، الذي لم يكن يتردد في الصَّدع بالحق، والجهر بما يراه سليما شرعا؟ فمن أقواله المأثورة ذات العلاقة، تأكيده أن " كل منازل العقل صعود"، في إشارة إلى إعمال العقل، وتشديده على أن " الانتقاد نفثة من الروح الإلهية ولولا النقد لما شب علم عن نشأته"، في انتصار واضح لممارسة فضيلة النقد، ونبذه التقليد، بقوله: "إن القرآن نعى على المقلدين ذاكرا لهم بأسوأ مما ذكر به المجرم". ففي الواقع، الحاجة ماسة لاستحضار روح هؤلاء المصلحين، وفي مقدمتهم
الإمام محمد عبده، في وقت غدت الغلبةُ فيه للضوضاء والافتراء على الدين، والإضرار بأمة تمتعت يوما بالعزة، والرفعة، وسلطة الكلمة.
كيف السبيل إذن إلى إعادة امتلاك فكر " محمد عبده" وغيره من المُجددين، وهم كُثر، والاستنارة بهم لإخراج المنطقة العربية الإسلامية من نفق الواقع المُظلم الذي دخلته منذ سنوات؟ ثم كيف يمكن التغلب على عملية " التعليب" التي اخترقت فئة الشباب، ذكورا وإناثا، وألقت بهم إلى جحيم " الجهاد" المجرد من الحق، والعقل والتفكير؟
لاشك أن السُّبُلَ شاقة ومُعقدة، وأنها تحتاج إلى جهد جماعي، يبدأ من الأسرة ويمر بالمدرسة والجامعة، ويُعزز بالحضور الواعي والمسؤول للدولة ومؤسساتها. فلكل حلقة من هذه الحلقات جانب من المسؤولية في بثِّ روح الاستنارة والتسامح وترجيح العقل. ولَرُبَّ قائل يقول، ومع وعينا أهمية نزع روح التطرف والتكفير من عقولنا وسلوكياتنا، يظل السؤال من أين نبدأ، وإلى أين نتجه؟
لنبدأ من حلقة التعليم، فنقوم بتنقية برامجه ومساقاته وطرق تلقينه من كل ما يزرع فكر التكفير والتطرف، ولندعِّم ذلك بتطهير إعلامنا، بمختلف أشكاله، من أوكار هذا النمط من التفكير، ولتعتمد الدولةُ سياسة عمومية واضحة وناجعة في رفع شأن العقل، والتفكير السليم، والمبادرات الحرة والنقدية، ولتكن الوسطيةُ البوصلة التي نربي بها أجيالنا، ونفتحُ لها بواسطتها طريق حب الحياة، والإقدام عليها بالعقل، والتفكير الإيجابي، والمبادرات البناءة. إن الحاجة ماسة إلى استعادة فكر التنوير والإصلاح السلس، الذي جاهد علماؤنا المتنورون، من قبيل محمد عبده، من أجل إشاعته في نفوسنا، والجهاد، بالموازاة، من أجل التغلب على نزعة النكوص التي ألمّت بنا، وزرعت في صفوف شبابنا آفةَ التطرف والعنف والتكفير.