قدم الخبير في الشؤون
السعودية ومدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن، سايمون
هندرسون، شهادة حول المملكة العربية السعودية، وكيفية تفكير القيادة هناك، ومستقبلها، أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي (اللجنة الفرعية حول الإرهاب ومنع الانتشار النووي والتجارة).
وحاول هندرسون، الذي تناول الشأن السعودي في كتاباته طوال عشرين عاما، تسليط الضوء على سياسة السعودية الداخلية والخارجية، وعلى كيفية إدارة العائلة المالكة للحكم.
في البداية، قدم هندرسون نفسه لأعضاء اللجنة، قائلا: "لقد كتبت عن المملكة العربية السعودية، وخاصة عن أفراد العائلة المالكة المعروفة باسم
آل سعود، لفترة دامت أكثر من عشرين عاما. ويمكن القول بأنني أنشر عن السعودية أكثر من أي شخص آخر. ولديّ أيضا سمعة في كتابة تقارير مفصلة، وهو ما يفسر ربما لماذا لم تُمنح لي أبدا تأشيرة سفر لزيارة المملكة العربية السعودية، على الرغم من أنني سافرت كثيرا في بقية دول الشرق الأوسط".
واستعرض هندرسون في شهادته ما قال إنها طرق أو نماذج عدة يمكن من خلالها النظر إلى المملكة العربية السعودية، وكانت كالآتي:
أولا: تَعدّ المملكة العربية السعودية نفسها زعيمة العالم الإسلامي وأحد قادة العالم العربي، إن لم نقل زعيمته الأولى، وبحكم كونها أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم، فهي قائدة عالم الطاقة. ومن بين هذه الأدوار القيادية، يُعدّ الدور الإسلامي، من منظور السعودية، الأهم إلى حد بعيد.
فالمملكة العربية السعودية تضم اثنين من أقدس الأماكن في الإسلام، هما مكة المكرمة والمدينة المنورة. ويشكل ضمان سلامة الحجاج المسلمين -الذين يعترفون بالتالي بالقيادة السعودية- هاجسا أساسيا.
ثانيا: هناك ثلاثة عناصر أساسية تتقاسم السلطة في المملكة العربية السعودية، وهي آل سعود و"هيئة كبار العلماء" والنخبة التي تتعاطى الأعمال التجارية/ النخبة التكنوقراطية.
ويُعدّ العنصران الأخيران، أي "هيئة كبار العلماء" ومجتمع الأعمال، خصمين. ويتوجب على العائلة المالكة موازنة التنازلات التي تقدمها لأحد هذين الفريقين مع تلك التي تقدمها للفريق الآخر.
وبصورة مجازية، يمكن تشبيه ذلك بمثلث. لكل مجموعة زاويتها من المثلث، إلا أن المثلث يعيش حالة توتر دائمة، بحيث تتغير ملامحه باستمرار فيما تسعى مجموعة أو أخرى إلى تحقيق مصالحها على حساب الأخرى.
ويعتقد هندرسون بأن هناك حدثين مهمين أثرا على المملكة بشكل قوي خلال العقود الماضية، أولها هي الثورة الإيرانية عام 1979، وهي الحدث الأبرز الذي أثر على طريقة تفكير السعوديين.
ففي شباط/ فبراير من ذلك العام، أطاحت الثورة الإسلامية في إيران بالشاه، ووضعت السلطة بيد نظام ديني من المسلمين الشيعة، التي هي طائفة الأغلبية في إيران.
وقد أدى انتصار الشيعة في إيران إلى تقوية الأقليات الشيعية في الشرق الأوسط، في لبنان والعراق والبحرين وكذلك المملكة العربية السعودية، وهي دول كان فيها الشيعة عادةً بمثابة مواطنين من الدرجة الثانية فعليا.
أما الحدث الأبرز الآخر فهو تحدي شرعية آل سعود عبر قيام مجموعة من الإسلاميين السنة بالاستيلاء على الحرم المكي عام 1979 أيضا.
ومنذ ذلك الحين، يقول هندرسون، توجّب على آل سعود القتال على جبهتين متناقضتين: مكافحة الأذى الإيراني على المستوى الإقليمي، بما في ذلك الدعم المقدم للأقلية الشيعية في السعودية، والتعامل في الوقت ذاته مع المتطرفين السنّة، بمن فيهم الجهاديين المحتملين في الداخل.
وما زالت المملكة تشعر بالتوتر وبنوع من الذعر تجاه إيران، وتخشى بشدة العواقب الإقليمية للاتفاق النووي الإيراني من عام 2015، وتشعر بالخيبة إزاء أسلوب القيادة الذي ينتهجه الرئيس أوباما.
ويؤكد هندرسون أن المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة حليفتان منذ عقود، والولايات المتحدة تُعدّ أهم حليف غير عربي للمملكة، خصوصا في ما يتعلق بردع التهديدات الخارجية ضد آل سعود.
وبينما تتنوع دوافع واشنطن، إلا أنها تتمحور حول الحاجة لضمان الاستقرار في منطقة تُعد مركز عالم الطاقة والعالم الإسلامي أيضا، وهما قضيتان تصدرتا عناوين الصحف لعقود من الزمن على خلفية الاختلال والاضطرابات المرتبطة بهما.
فانعدام الاستقرار في المنطقة يهدد أيضا حلفاء آخرين للولايات المتحدة ومصالح أمريكية أخرى. وما زالت الأراضي الأمريكية هدفا محتملا للإرهابيين والمخططات الإرهابية النابعة من الشرق الأوسط.
ويتمثل التحدي الرئيس في العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، بحسب هندرسون، في مجال مكافحة الإرهاب، بوجود نقاط اختلاف حول التركيز والتوجه أكثر من أي وقت مضى، ما قد ينطبق حتى على الحلفاء المقربين.
وفي ما يتعلق باليمن، تعتقد واشنطن أن العمل العسكري بقيادة السعودية الذي بدأ منذ أكثر من عام، قد أسيء فهمه، ولن يفضي إلى أي نتيجة. فضلا عن ذلك، بالغت الرياض بدور إيران في دعم المتمردين الحوثيين. بالإضافة إلى ذلك، تتمثل وجهة نظر الولايات المتحدة، بأنه عوضا عن التوجه نحو تهدئة الأوضاع المتوترة بين طهران والرياض، يبرز خطر التصعيد.
ومن المثير للاهتمام في هذا السياق، أنه في سيرة الرئيس أوباما التي نُشرت مؤخرا في مجلة "ذي أتلانتيك"، تعرضت المملكة العربية السعودية لانقادات أشد وطأة وأكثر من أي دولة أخرى، سواء أكانت حليفة أم لا.
ويضيف هندرسون أن هناك قضية رئيسة بالنسبة للولايات المتحدة ودول أخرى، وهي أنه وفقا للنظرة السعودية تجاه الأمن الداخلي، فإنه يتم تحديد التهديدات على نطاق واسع، انطلاقا من الإرهاب ووصولا إلى الرسائل النصية.
وفي الواقع، يتم التعامل مع مناصري ما تعتبره دول أخرى "حرية التعبير" بالطريقة ذاتها وفي المحاكم الخاصة ذاتها المعتمدة مع من يمارس العنف ضد الحكومة. وقد تكون عقوبة هؤلاء شديدة القسوة.
وعلى سبيل المثال، تَضايق الرأي العام الدولي إلى حد كبير من إعدام ما لا يقل عن 47 رجلا على خلفية تهم إرهابية متنوعة في 2 كانون الثاني/ يناير من هذا العام، علما بأن بعضهم كان محكوم عليه بالإعدام منذ سنوات عدة.
وكانت الغالبية العظمى منهم من السنّة المرتبطين بتنظيم "القاعدة" أو تنظيم "الدولة الإسلامية"، إلا أن أربعة من الذين أُعدموا كانوا من الشيعة، بمن فيهم الواعظ المتشدد نمر النمر.
أما توقيت عمليات الإعدام، فكان بمثابة رسالة إلى المتطرفين الشيعة المدعومين من إيران، بالإضافة إلى الجهاديين السنّة، مفادها بأن المملكة العربية السعودية ستتعامل مع الإرهاب بقبضة من حديد. بيد أن الرياض لم تتوقع على الأرجح أن يكون رد الفعل بهذه القوة، إذ قام غوغاء إيرانيون، بدعم شبه مؤكد من السلطات، باقتحام مبنى السفارة السعودية في طهران وإحراقه.
وما كان من الرياض إلا أن قطعت علاقاتها الدبلوماسية على الفور مع إيران، مشجعة بذلك حلفاءها العرب على القيام بالمثل، إلا أن معظم تلك الدول اكتفت بسحب سفرائها، في خطوة عكست تشتتا لم تغفل إيران عن ملاحظته.
وفي السنوات الأخيرة، لطالما وصفت المملكة العربية السعودية علنا علاقتها مع الولايات المتحدة في مجال التعاون في مكافحة الإرهاب بعبارات مبتذلة، كما لو أن أي تلميح إلى النقد الصريح يأتي بنتائج عكسية.
ولكن هذه العلاقة اكتست بعدا جديدا ومعقدا منذ تغيّر القيادة في المملكة في كانون الثاني/ يناير 2015، عند وفاة الملك عبدالله. فقد كان هذا الأخير القائد المؤثر على مدى عشرين عاما، غير أنه لم يصبح الملك الفعلي إلا في عام 2005.
وقد خلّف الملك عبد الله أخاه غير الشقيق سلمان، الذي عَيّن في البداية مقرن الأخ غير الشقيق وليا للعهد، كما أنه عَيّن ابن أخيه محمد بن نايف وليا لولي العهد.
وبحسب هندرسون، فإن محمد بن نايف كان مفضلا لدى واشنطن، وقد لُقّب بـ"رجل مكافحة الإرهاب"، كما أنه يحظى بتقدير كبير كونه قد نجا من هجوم انتحاري في عام 2009، دون أن يمسه أي أذى تقريبا.
ولكن في نيسان/ إبريل 2015، وبعد مضي ثلاثة أشهر على تبوؤ سلمان السلطة، فقد طرأ تغيير على خط الخلافة السعودية.
فقد تم إقالة الأمير مقرن، ومع أنه استُبدل بالأمير محمد بن نايف وليا للعهد، إلا أن الخطوة اللافتة كانت اختيار أحد أبناء الملك سلمان الأصغر سنا، وهو محمد
بن سلمان، الذي يبلغ بالكاد ثلاثين عاما، لشغل المنصب الثالث الشاغر في المملكة.
ويُعدّ محمد بن سلمان مسؤولا عن السياسة الاقتصادية، بما فيها السياسة النفطية، وهو وزير الدفاع الذي يدير الحرب في اليمن. أما محمد بن نايف، الذي يناهز السادسة والخمسين عاما وفقا لبعض التقارير، فما زال وزير الداخلية ويترأس اجتماعات الحكومة الأسبوعية في غياب الملك، إلا أن سلطته ونفوذه ينحسران على ما يبدو، في حين يلعب ابن عمه محمد بن سلمان، الأصغر منه سنا بكثير، دورا متعاظما في كافة القضايا الأساسية بالنسبة للرياض. فرجل واشنطن المفضل، محمد بن نايف، قد نُحي جانبا.
وفي هذا الوقت، لا بد من التخلص من الوسائل المجرّبة والمختبرة لفهم سياسات السلطة الخاصة بالعائلة المالكة السعودية.
ولطالما قيّم آل سعود عامل السن (أي الأقدمية) والخبرة في ما يتعلق بالمناصب القيادية. وقد جوبهت الخلافات والخصومات بالحاجة الظاهرة للإجماع ولجبهة علنية مشتركة تُعرض أمام الدولة والعالم.
إلا أن محمد بن سلمان يفتقر لعامل السن والخبرة، كونه لا يتجاوز الثلاثين عاما.
ويخلص هندرسون في نهاية شهادته إلى أننا نواجه مستقبلا يتسم بعدم اليقين. فقد تم تهميش حليف واشنطن الأساسي في قضايا مكافحة الإرهاب، محمد بن نايف، على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك، إلا أن الحاجة لشراكة فعالة في مجال مكافحة الإرهاب أصبحت ضرورية أكثر من أي وقت مضى.
ولا تثق الرياض بمقاربة واشنطن تجاه إيران التي تشكل بحد ذاتها، بالنسبة إلى الجانب السعودي، نصف مشكلتها الإرهابية على الأقل.
ويوصي هندرسون بأن في ظل هذه الظروف، لا يمكن للولايات المتحدة أن تعدّ شراكتها الحالية مع المملكة العربية السعودية في مجال مكافحة الإرهاب من المسلمات.
وعلى الرغم من الخلافات والإهانات العلنية، فإنه لا بد من تكييف العلاقة بين الدولتين بحيث تتم المحافظة على جوهرها مع استمرار حالة عدم اليقين على الصعيد السياسي حول السلطة الفعلية في بيت آل سعود.