في مثل هذا الوقت من كل عام، يستعد العرب لغزو "لوندون"، وتحضرني كلما جاءت سيرة لندن، مكالمة هاتفية تلقيتها من صديقي المصري أحمد عبد الرازق في الشهر الثاني من التحاقنا بقناة بي بي سي التلفزيونية العربية، فقد رن هاتفي بعد منتصف الليل، فنهضت فزعا وجلا، لأن كل من يعرفني يعرف أنني لا أهاتف شخصا، ولا أحب أن يهاتفني شخص بعد العاشرة مساء، كما أنني لا أزور ولا أُزار بعد تلك الساعة، فرفعت السماعة وأنا أتوقع سماع خبر مؤلم عن رحيل شخص عزيز أو تعرضه لإصابة أو علة تشكل خطرا على حياته، فإذا بصديقي يقول لي بكل برود ودون أن يبدأ بالتحية: إلا قول لي. هم العرب بييجو لندن ليه؟ فيها حاجة غير الإحنا شايفنها؟ سألته: هل اتصلت بي في هذه الساعة لتسألني فقط هذا السؤال؟ فأجاب بأنه عاد الى البيت لتوه بعدما سار في شارع مقفر وثار ذلك التساؤل في خاطره فأراد طرحه علي.
وجهت إليه لحظتها شتائم من العيار اللبناني، ولعنت خاشه فسألني: ليه بتلعن خاشي؟ فسألته بدوري: هو انت عندك خاش؟ هو الخاش دا يطلع إيه بالضبط؟ ولكنني وجدت نفسي أطرح سؤال صديقي أحمد على نفسي كلما زرت لندن - ويشهد الله أنني لم أزرها قط كسائح – ووجدت آلاف العرب يتدافعون في شوارعها، بوجوه مستبشرة، وكأنهم يحسبون ان التجوال في شارع أوكسفورد يؤدي إلى الحصول على شهادة عليا من جامعة أوكسفورد.
لسبب ظللت أجهله، صرت كلما زرت لندن ازداد كراهية لها، بينما أعجبتني مدن بريطانية أخرى كثيرة، وأحببت على وجه خاص قرى ومدن وشعب اسكتلندا، وفكرت في الأمر بهدوء، واستنتجت أن كثافة الوجود العربي في لندن جعلني أكره لندن، بينما ندرة الوجود العربي في المدن البريطانية الأخرى جعلني لا أضيق بتلك المدن، أو وجودي فيها.
لا أقصد بذلك أنني أتضايق من وجودي بين أعداد هائلة من العرب. بالعكس أحس بأمن وأمان وأنا أعيش بين العرب في بلدانهم، ولكن اعتقاد ملايين العرب أن زيارة لندن في الصيف فرض عين، ثم تدفقهم على المدينة موزعين وقتهم بين المتاجر والمطاعم والحانات، هو الذي يجعلني أتحسس مسدسي الافتراضي كلما مررت بمجموعة عربية في شوارع لندن، وقد تلتقي بآلاف العرب الذين زاروا لندن عشرات المرات، ولكن قد لا تسمع واحدا منهم يحدثك عن متحف التاريخ الطبيعي أو العسكري، أو شيء يسمى صالة تيت للفنون، أو حتى مدام توسو.
وعندنا في السودان مثل يقول "الكلب يحب خنَّاقه"، ونعني به أن الإمعة من الناس يكون تابعا لمن "يخنقه" أي يذله ويبهدله، والبريطانيون استعمروا بلداننا وقسموها وخططوا حدودها وكانوا السادة وكنا نحن الرعايا لعقود طويلة، ومع هذا فإن بلادهم هي أحب بلاد الله إلى قلوبنا، وينفق العرب كل صيف أكثر من خمسة مليار دولار في لندن وحدها، ويذهب معظم ذلك المبلغ في سلع موجودة في الأسواق العربية بأسعار أقل من أسعارها في بريطانيا، ولكنها عقدة "هاذي جبتها من لوندون".
وطالما أن إعجابنا ببريطانيا نشأ عن كونها كانت تستعبدنا فما قولكم في أن نرد لها الجميل، أو "الصاع"؟ أقصد أن نتدبر أمورنا وأن نهجم على الجزر البريطانية في ذات مساء يوم سبت عندما تكون البيرة التي يشفطوها البريطانيون مثل الاوكسجين قد أتت مفعولها، فنداهمهم ونحتل بلادهم ونستعمرهم، ونقول لهم ما قالوه لنا عندما احتلوا بلادنا: "أتينا لنشر الحضارة".
طبعاً نحن لا نملك في العصر الراهن حضارة صالحة للنشر، وحتى إذا زعمنا أننا نملكها فهي "مقلدة"، يعني حضارة منقولة من الأجانب أو الأسلاف ومحرّفة. ولكن لا شيء يهم، فالمهم أن نحقق انتصاراً أو انجازاً من أي نوع. بصراحة "حرام" أن تنتهي نحو عشرة قرون دون أن يكون لنا فيه إنجاز يرفع الرأس. ربما يقول البعض إنه يكفينا فخراً أن عضوية الجامعة العربية ارتفعت إلى 22 دولة، ولكن هذا ليس بالإنجاز، فرغم أن "الجامعة" نجحت في استدراج جزر القمر إلى عضويتها، إلا أنها فشلت في توسيع قاعدة عضويتها بضم كل من بريطانيا وكندا واستراليا وفرنسا والمانيا التي أصبحت أوطاناً بديلة لملايين العرب الذين ضاقت بهم بلدانهم، وكان بإمكان الجامعة العربية أن تطالب بالحكم الذاتي لمناطق معينة في لندن مثل أدجوير رود، وبيزووتر وكوينزواي وهي مناطق عربية مئة في المئة، أو هي كذلك على الأقل خلال فصل الصيف. وكان على الجامعة أن تدخل في مفاوضات مع الحكومة البريطانية للحصول على حد أدنى يكفل الحقوق العربية المشروعة في تلك المناطق، مثلاً بإخضاعها لإدارة ثنائية: عربية صيفاً، وبريطانية شتاءً.
وبما أن الصيف في بريطانيا لا يزيد على 47 يوماً فإن مثل ذلك الحل لا يُرضي تطلعات أمتنا الصابرة منذ الأزل، ولا بديل سوى إخضاع لندن للاستعمار العربي، وتعريب كل شيء فيها. فتصبح محطة "ووترلو" محطة "دورة المياه". ومحلات ماركس آند سبنسر تصبح – مثلاً – محلات مبارك وسبسي. وهايد بارك "متنزه الاختفاء"
والأهم من كل ذلك أنه سيصبح بإمكان أي عربي أن يدخل إلى بريطانيا من دون "فيزا"، ولكن وبما أننا أصحاب حضارة فعلينا أن نرأف بالبريطانيين وأن لا نضم بلدهم إلى الجامعة العربية لأنها إذا دخلت هذه الجامعة فسيصبح حالها مثل "كان وأخواتها"، وتصبح بالتالي غير صالحة "للإقامة".
ولضمان عدم حدوث انتفاضة أو ثورة شعبية ضد الاستعمار العربي، علينا أن نفتح مئات المطاعم في المدن كافة حتى يدمن البريطانيون أكل الفول والمكبوس والمحشي والمنسف، وما إلى ذلك من أطباق تحوي مواد مثبطة للهمة. فهذه الأكلات ذات مفعول أكيد، لقمتان أو ثلاث فيأتي النعاس، وينوم الشعب البريطاني، وتصبح مواسير الويسكي والبيرة رهن أيدينا ولا حاجة لنا لتهريبها. وبالطبع فإن هناك من سيقول: ولكن هذا حرام! وإلى هؤلاء أقول، إن هذه المسائل "نسبية" خارج الوطن العربي، بعدين لماذا أساساً نتكالب على لندن وأخواتها إذا كنا نتحدث عن الحلال والحرام؟ فالشيء الوحيد الذي ثبتت حرمته في فقه السياحة هو لحم الخنزير، بل هناك من يقول إن الخنزير إذا ذُبح "حلالاً" فلحمه حلال.
على كل حال نفّذوا خطة استعمار بريطانيا، وتذكّروا أن التاريخ لن يرحمنا إذا فوتنا فرصة إقامة "الدولة العربلندنية"، واستحلفكم الله لا تقولوا إنكم ستفعلون ذلك بعد تحرير فلسطين، لأن في ذلك عدم اعتراف بالإنجاز الضخم للختيار الراحل أبو عمار، والذي أسفر عن دولتي مازنستان وحماسستان الفلسطينيتين.
احمدوا الله عندكم اليوم فلسطينان وليس فلسطين واحدة..