يقدم ستيفن بروك عرضا وافيا ورصينا لحملة النظام
المصري القمعية على المنظمات التعليمية ومنظمات الخدمة المجتمعية التي تحسب على الإخوان المسلمين – أو التي قد تساهم في تحسين سمعتهم. ويبدو أن الغرض من دراسته هو البحث في ثلاثة أسئلة متمايزة. الأول هو ما إذا كانت الحركة الاجتماعية أم الحزب السياسي هو الوسط الذي سيفضله الإخوان مستقبلا. والثاني ما إذا كانت جاذبية منهج الإخوان ستخفت لحساب النموذج السلفي-الجهادي؛ والسؤال الثالث والمرتبط بالثاني، ما إذا كانت الهجمة على الخدمات المجتمعية التي توفرها الحركة سيزيد من احتماليات العنف.
أتفق مع الحقائق التي يسوقها بروك في كلامه، وأتفق معه كذلك في أن هذه الزاوية تقدم إطارا فريدا وضروريا للبحث في هذه الأسئلة. نعم، إغلاق المجال أمام الخدمات الاجتماعية – بالتزامن مع إغلاق الكثير من المجالات الحياتية الأخرى في مصر – من المحتمل أن يقود بالبعض إلى التطرف. ونعم، أنا أيضا تصل مسامعي تمتمات كثيرة من شباب مصريين عن جاذبية نموذج الأنظمة الصدامية الموازية للدولة؛ ونعم، نحن بحاجة لنفكر بشكل أكثر جدية عن العلاقة بين الحركة الدينية والاجتماعية الإحيائية التي هي الإخوان، وسؤال المشاركة السياسية في بيئة سياسية غير قمعية وتمثيلية بشكل حقيقي.
وبينما لا أختلف مع التفاصيل التي تقررها الورقة، إلا أنني أختلف مع التأطير العام للقضايا. فعليا، يرسل بروك برسالة مفادها أن الأفراد يتخذون موقفا أيديولوجيا وخطة للحركة بناء على عوامل خارجية أكثر منها ذاتية. أو بعبارة أخرى، يدفع الكاتب بحجة أن سلوك الأفراد في مواجهة قمع النظام يتحدد حسب المجالات التي يبقيها النظام مفتوحة أكثر مما ينطلق من تقييمهم أنفسهم للصواب والخطأ. وعلاوة على ذلك، يفترض الكاتب أن الدافع الرئيسي وراء تقديم الإخوان المسلمين للخدمات الاجتماعية والتعليمية هو خارجي كذلك.
يعترف بروك أن "توفير الجماعة للخدمات الاجتماعية كان غالبا ما يتم دون تمييز: لا يحتاج أحد إلى اجتياز امتحان أيديولوجي أو إظهار الولاء ليستفيد من خدمات الجماعة – بل إن الجماعة تحرص بشدة على تأكيد أن خدماتها الاجتماعية متاحة للجميع". لكنه يقفز على التسلسل المنطقي فيقترح أن سبب ذلك هو أن "الجماعة نظرت إلى الخدمات الاجتماعية إلى حد كبير كما ينظر إليها الحزب السياسي، بصفتها وسيلة للوصول إلى الناخبين وحشدهم". وفي موضع آخر يقول: "لطالما اعتمدت الجماعة تاريخيا على توفير الخدمات الاجتماعية "كآلية لجذب الأنصار السياسيين المحتملين"، و "كوسيلة لكسب الدعم الجماهيري بينما سعى التنظيم لتعظيم قوته السياسية". ويشير الكاتب أيضا إلى عادة الإخوان لتسجيل مؤسساتها الخدمية والتعليمية لدى الهيئات الحكومية المختلفة كدليل على الادعاء بأن الجماعة عمدت إلى العمل وفقا لقواعد النظام.
أولا: الخدمة والانتماء ونظام الحكم
يمثل هذا السرد أحد أهم مساحات التنازع بين أعضاء الحركات الإسلامية ومراقبيهم، وإن أراد القراء فهم الحركات الإسلامية، فعليهم أخذ ما يلي في الاعتبار. جماعة الإخوان في أصلها هي حركة اجتماعية إسلامية، وليست حركة سياسية فقط، وهي تربي أبناءها على النظر لقيمة الخدمة من زاوية دينية في المقام الأول. الخدمة تربي الشخصية. الخدمة صورة من العمل الخيري مفروضة على القادرين على تقديمها، وتتضاءل قيمتها مع الجزاء والثناء وأشكال التقدير الأخرى. وأخيرا – وهذا جانب رئيسي لرسالة المؤسس حسن البنا، وسمة مميزة لجماعة الإخوان المعاصرة: تقديم الخدمة لأبناء الوطن أحد صور بناء بلادنا وخدمة شعبنا. الخدمة تعضد من فكرة أن هذه الأنظمة السلطوية الفاسدة التي تقوم على المحسوبية ولا تمثل شعوبها ما هي إلا ظواهر عابرة وغير طبيعية تطرأ على مسار التاريخ ولا يكتب لها البقاء.
بالإضافة إلى ذلك، فالحركات الإسلامية كالإخوان المسلمين مهتمة بالحفاظ على كيانات الدول القومية وغيرها. بعض الجماعات التكفيرية (وهذا ليس الاصطلاح الذي أفضله) لا تشاركها هذه الرؤية. هم لا يرون أن شعوب دولهم هي شعوبهم. هم يسارعون إلى التكفير المطلق. هم لا ينظرون إلى الدول القومية الحديثة على أنها بلادهم وبالتالي يسهل اتخاذهم للقرار بتفكيك ما هو موجود بالفعل وبناء ما يتصورونه دولا موازية. يستنكرون ويحتقرون اعتراف الإخوان المسلمين بالدولة القومية، ويزعمون أنهم يسعون لما يعتقدونه صورة الاجتماع الشرعية الوحيدة في الإسلام – الخلافة العابرة للحدود. أما الإخوان المسلمون وغيرهم فيرون أن الإسلام يحترم ويشجع مختلف دوائر الولاء والمودة والانتماء على اتساعها اللامتناهي. أصغر تلك الوحدات هي الأسرة، التي يتحمل الفرد مسؤوليات تجاهها، وأكبرها هي الإنسانية جمعاء، مرورا بوحدات أصغر كالجوار، والعشائر والقبائل إن وجدت، ثم المجتمعات، ثم الدول، ثم الدوائر عبر الدولية/ الوطنية.
الأساس الجوهري لهذه الوحدة التدرجية ليس بالضرورة دينيا أو أيديولوجيا، بل جغرافي. والأدلة على هذا الرأي تتخلل مسار العلوم الدينية والتاريخ والفكر السياسي الإسلامي، بدءا بالتأكيد الفردي والمجتمعي على الواجبات تجاه الجيران (أيا كانت عقيدتهم)، والذين اقتربت منزلتهم من منزلة الأسرة. ثم اتسعت هذه الواجبات في وثيقة المدينة (التي أرست علاقة نفع متبادل بين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة الأصليين)، ثم نرى طروحات معاصرة عن المواطنة تتماشى بدرجة كبيرة مع وثيقة المدينة (على سبيل المثال، من راشد الغنوشي المنتمي لحركة النهضة، وعصام تليمة الأزهري، وغيرهم).
الخلافة في تصور البنا وجودها ممكن بسبب الترابط بين وحدات أصغر كثيرا لا هي مستقلة عنها ولا غير مرتبطة بها. وطرح البنا لتصوره عن الخلافة كان شديد الإيجاز، يفترض هو أن الخلافة هي تعبير عن وحدة قاعدة واسعة من الوحدات، ويؤكد أن الإخوان المسلمين يسعون لإعادة تأسيس خلافة، ولكنه يؤكد أيضا أن عددا من المتطلبات يجب توفرها قبل أن تغدو فكرة الخلافة واقعية – كالتكامل الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، وكذلك تراكم المعاهدات التي تحدد وتحفظ التعاون المتبادل المؤدي إلى هيئة تكون بمثابة عصبة أمم إسلامية (ونموذج الاتحاد الأوروبي هو ربما الأقرب لهذا التصور). والإخوان المسلمون دعموا على امتداد تاريخهم هذه الوحدة التدرجية المذكورة أعلاه، ودعموا مجالات التعاون المتزايد بين كافة الدول، في إطار مبادئ الاحترام المتبادل.
هناك بالتأكيد الكثير من اللغط حول فكرة الخلافة يثيره بعض السياسيين والكتاب الغرب، الذين يختزلون في المصطلح كل ما يثير التخوف من الإسلام والمسلمين. وبينما بعض تلك التخوفات هي تخوفات معقولة وتستدعي المزيد من النظر، كالحريات الدينية والمساواة على سبيل المثال، فالبعض الآخر هو مجرد توابع للنظر إلى المسلمين بصفتهم "الآخر" الغريب. علينا أن نتساءل لماذا يعتبر من الطبيعي والمحمود أن تسعى "ولايات" لـ"اتحاد أكثر مثالية" أو تعمل دول أوروبية "نحو اندماج شامل"، بينما يُنظر بعين الريبة للبلدان المسلمة التي تسعى نحو ذات الهدف، ويطلب منها تقديم المبررات.
ثانيا: الخدمة، والنفع، والعنف
عدم قدرة الكثير من المحللين على فهم الدوافع الروحية ذات المنطلق العقدي التي هي وراء الخيارات التي يتخذها الإسلاميون، بشكل فردي وجمعي، يمثل عائقا أمام فهم "الإسلام السياسي" في المقام الأول. السرد الذي يقول بأن تقديم الخدمات هو وسيلة نحو السلطة لا يمكنه تفسير الاستمرار في توفير الخدمات الاجتماعية عبر عقود من القمع والتضييق. منذ عام 1977، حين أنشئت الجمعية الطبية الإسلامية، وحتى قبيل ثورة الخامس والعشرين من يناير، لم تمر لحظة واحدة كان متصورا فيها أن يضيف الإسلاميون إلى "قوتهم السياسية" شيئا، ناهيك عن أن يعظموها. وعلاوة على ذلك، فإنه في ظل الطبيعة السلطوية للأنظمة في مصر، فإن أيا من تلك "المكاسب" كانت دوما تحت رحمة القمع التعسفي من قِبل النظام. كان النظام مستعدا لعرقلة تقديم الإخوان المسلمين للخدمات، وقد فعل، خلال الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة؛ ولم يحدث خلال تلك الفترة أن بدأ يتضح طريق نحو التحرر السياسي نتيجة لنشاط الجماعة في المجتمع.
ربما تغيب مع مرور الوقت حقيقة أن النظام كان حريصا على تعجيز الإخوان المسلمين بشتى الإجراءات القمعية. خضع أعضاء الجماعة لمحاكمات عسكرية، اعتُقل شباب الجماعة بشكل روتيني، ولجأ النظام للتعذيب باستمرار، وشيئا فشيئا أغلقت كافة مجالات المشاركة في المجال العام فيما عرف بـ"سياسة تجفيف المنابع" (مصادر ومجالات الحركة). الفارق الوحيد بين نظامي مبارك والسيسي هو أن الأول كان يخشى الافتضاح أمام المجتمع الدولي، بينما يؤمن الأخير – ولأسباب حقيقية – أن المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، سيدعمون القمع الشديد. ومع ذلك، فأثناء حكم الرئيس أنور السادات ثم مبارك، استمر توفير الخدمات وتوسعها وترسخها في المجتمع.
أنا أدرك تماما أن الكثير من المحللين والقراء يجدون صعوبة في التخلي عن التفسيرات القائمة على النفعية لصالح الدوافع الذاتية المنطلقة من أساس عقدي، وهذه عقبة يجب الإقرار بها صراحةً. وهذا هو السبب – كون الكثير من أفعالنا ليست عادة الأكثر نفعية أو الأكثر تعظيما للمصلحة، بل منطلقة من مبادئ وعقائد – وراء استمرار الناس في تأييد الحركة. وكذلك هو تحديدا السبب في أن المناهج العنيفة الراديكالية ستظل تعاني من ضآلة شعبيتها بين أعضاء وأنصار الجماعة. (بعبارة أخرى، من المستبعد أن يتجه أولئك الذين يخلصون في خدمة مجتمعاتهم، بغض النظر عن الديانة أو التوجه السياسي، إلى تدمير ذات المجتمعات بالانخراط في العنف أو الإرهاب).
لأكون أكثر دقة، اسمحوا لي بأن أؤطر للتفسيرات النفعية لسلوك الإخوان المسلمين. لا شك في أن المسلمين مفروض عليهم التفكير والنظر وإعمال أفضل الوسائل من أجل تحقيق أهدافهم المنشودة. وبناء على ذلك، فالسلوكيات الفردية والجماعية ليست غير عقلانية أو منفصلة عن حسابات فرص النجاح وغيرها. ولكن ما يساء فهمه هو الإطار المستخدم لفهم الخيارات "العقلانية". بالنسبة للإخوان المسلمين، الدوافع الرئيسية هي أخلاقية ودينية. والغايات مركبة. توفير خدمات في هيئة مساعدات غذائية، أو تعليم سهل المنال، أو خدمات صحية، يخدم عدة أهداف: يساعد ذلك المحتاجين؛ ويعود على الأفراد الذين يشاركون في توفير الخدمات بجزاء روحي؛ ويحسّن من المجتمع. وإن أدت الخدمات التي يتولى الإخوان المسلمون تقديمها إلى دفع النظام إلى تقديم المزيد من الخدمات وتحسين استجابته لاحتياجات الناس، فهذا يعد نجاحا. إن استدامت هذه التطورات وتمأسست، فهذا نجاح آخر، وهكذا. وإن فشل توفير الخدمات في زيادة شعبيتنا، فإن هذا لا يقود إلى "إعادة تقييم" للمنفعة من الخدمة بصفتها رسالة أساسية وجوهرية لدى الإخوان المسلمين.
كان نفوذ الجماعة في منتصف الأربعينيات من حيث توفير الخدمات الاجتماعية ومن حيث الشعبية مبهرا. ثم جاء القمع الذي وقع بعد ذلك في الخمسينيات والستينيات مصحوبا بقدر كبير من التأييد الشعبي للنظام الناصري. كان منهجا نفعيا خالصا سيقود إلى استنتاج بأن توفير الخدمات وسيلة لا يعول عليها لضمان التأييد الشعبي.
الإخوان المسلمون لم يتوصلوا إلى ذلك الاستنتاج، وكان ذلك مقصودا. وبالفعل، وصلت جماعات أخرى لذلك الاستنتاج بالتحديد، منذ الخمسينيات وحتى اليوم. وأصل الفجوة بين الإخوان المسلمين وتلك الجماعات الأخرى هو تقديم الجماعة للعقيدة على المنفعة، دون إسقاط الأخيرة من الاعتبار، بينما الجماعات الأخرى – مثل داعش – تقدم المنفعة على الفضيلة والعقيدة وتتجاوزهما بين الحين والآخر لحساب المنفعة.
وبناء على ذلك، فرغم أن تحليل بروك تحليل ممتاز وثاقب ويضيف بالفعل بُعدا مهما إلى النقاش، فإنه لا يعكس حقيقة آراء الإسلاميين أمثالي وغيري ممن أعرفهم. صحيح، الخدمة هي نوع من الانتشار وطريقة ليتعرف الناس على الحركة. ولكن لا، لا يؤدي انغلاق مجال تقديم الخدمات، في حد ذاته، بالناس لسلوك طريق العنف أو للتشكك في المبادئ الأساسية لرسالتهم وهويتهم.
بالطبع ستكون هناك استثناءات، لكن القاعدة لن تكون كذلك. كون بعض الأفراد سيشعرون بأنه لم يعد أمامهم طريق سوى طريق العنف هو انعكاس لفشل الأنظمة القمعية وردود الفعل الدولية تجاهها، وليس انعكاسا لنجاح فلسفتنا نحن أو فشلها. وفي حين أن ظاهرة اللجوء للعنف ظاهرة جديرة بالدراسة والتأمل، ورغم أن تكلفتها على المجتمع قد تكون كبيرة، فالذي يحتاج للدراسة – والأكثر أهمية لفهم العنف – هو لماذا يقوم المجتمع الدولي بدعم الأنظمة القمعية والسلطوية والتطبيع معها رغم أن ذلك يدفع مواطنيها بوضوح نحو الراديكالية.
وبعيدا عن سؤال العنف في أوساط الإسلاميين، فإن أحد التداعيات الأكثر مدعاة للقلق لاستيلاء النظام على الخدمات الاجتماعية والتعليمية هو ما أشار إليه الكاتب في استنتاجاته: بينما يقوم هذا النظام الفاسد المُحابي الذي لا يعبأ كثيرا بمصالح الناس بتدمير آخر الوسائل التي تحفظ للمصريين شيئا من الحياة والكرامة، فإن احتماليات الحراك المجتمعي تغدو أكثر واقعية. فالاضطرابات العمالية، على سبيل المثال، زادت كثيرا خلال العامين الأخيرين( ). ولم تتبلور بعد نتائج الرفع المفاجئ للدعم عن الفقراء في ظل الفساد المالي وغياب شبكة للضمان الاجتماعي. وباختصار، فالعوامل التي تؤدي عادة لاضطراب واحتجاجات على نطاق واسع آخذة في الازدياد لا في النقصان.
ثالثا: انتقالا إلى محور آخر:
ليس ما أكدت عليه سابقا من مركزية الخدمة في رؤية الإسلاميين للعالم محاولة لتبرئة الإخوان المسلمين من أخطائهم في السنوات الخمس الأخيرة. وفي هذا السياق، من المهم التأكيد على أن الجماعة حاليا تقوم بمراجعة شاملة لسلوكياتها، وخاصة خلال السنوات الخمس الأخيرة منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير. وهذه المراجعة تمتد لتشمل استراتيجياتنا وتصورنا العام لطبيعة الصراع بين المدنيين والحكم العسكري. وأحد أهم المسائل قيد المراجعة هي العلاقة بين الجماعة، كحركة دينية واجتماعية، وحزب الحرية والعدالة (أو أية أحزاب سياسية مستقبلية في الواقع) ( ). منذ تأسيس حزب الحرية والعدالة، كانت النية هي الفصل بشكل واضح بين الهيئتين. وربما لم يكتمل هذا الفصل في الواقع كما أريدَ له.
كما أشار البعض، فحزب الحرية والعدالة وظف السمعة الطيبة التي بنتها الجماعة واعتمد في بناء شرعيته لدى الناخبين على الرصيد الاجتماعي للحركة. حين أتأمل ذلك الآن، أرى أن هذا كان خطأً، وكان سببه في الأغلب الظروف غير الاعتيادية التي مرت بها مصر وليس استراتيجية مقصودة. قبل عام 2011، لم يتوقع كثير من المصريين أن يأتي اليوم الذي ينزل فيه أشقاؤهم من المواطنين إلى الشوارع أخيرا لإسقاط حسني مبارك، ناهيك عن أنه كان سيضطر إلى التنحي. توظيف سمعة الإخوان المسلمين حدث لأن الجماعة، وليس حزب الحرية والعدالة، كانت هي من شارك في أحداث كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير من 2011، ببساطة لأن الحزب لم يكن موجودا حينها. بالنسبة للمصريين، كان الإخوان المسلمون، وليس حزب الحرية والعدالة، من قدم التضحيات من أجل مصر. ولذلك وربما كرَدّ فعل تلقائي على سؤال "لماذا على الناخبين أن يثقوا في إدارتكم للاقتصاد والحكومة وغيرها؟"، استدعى حزب الحرية والعدالة سمعة الإخوان المسلمين. وأنا أقول ذلك ليس لتبرير التداخل، ولكن في محاولة للنظر النقدي في سلوكيات الماضي.
وفي المقابل، لم تستطع جماعة الإخوان التخلي تماما عن حزب الحرية والعدالة رغم أنه تطور بشكل كبير مع مرور الوقت. وبإمكاني القول إن الآراء داخل الجماعة اليوم تتجه إلى الاتفاق على فصل الحركة تماما عن أي عمل حزبي تنافسي في حال استعادة المجال للنشاط السياسي والاجتماعي. نحن نؤمن بأن هناك حاجة لحزب سياسي (أو أحزاب) منطلق بقوة من رؤية كونية إسلامية ويسعى لترجمة تلك الرؤية إلى واقع مُعاش. وسيتعين على ذلك الحزب أن يوضح برامجه ومواقفه الخاصة؛ سيبني بنفسه كوادره وقدراته، وستكون له حرية ممارسة السياسة وفق منهج قيَمي – وبراغماتي. نحن نؤمن كذلك بأن هناك حاجة مستمرة لتوجيه الجهود نحو الإصلاح الديني والاجتماعي. إن نجحت الحركة بكاملها في فهم وتطبيق هذه الجهود على حدة، فلن يكون هناك داعٍ لربط العمل الاجتماعي بأية أجندة سياسية.
نقطة أخيرة:
نحن الآن نفهم تصرفات النظام في ضوء مختلف نوعا ما عن الثنائية البسيطة حيث النظام مقابل المعارضة، والإخوان المسلمون في خانة المعارضة. نحن نعتقد أن المعركة الدائرة في مصر الآن هي مع تصور سلطوي ومركزي وعسكري لمصر، انتقل إلينا ضمن إرث محمد علي (منذ 1805)، الذي اعتبر مصر كحامية لخدمة الجيش. المؤسسة العسكرية، بتشكيلها الحالي، ما تزال تقدم مصالح الجيش على مصالح الوطن ومواطنيه. وهناك مفهوم ساخر يتداوله المصريون حول هذه العلاقة بين الجيش والبلاد، مؤداه أنه بينما تتمتع الدول الأخرى بجيوش تخدمها، يتمتع جيشنا بدولة تخدمه.
وطالما استمرت هذه العلاقة، سيظل المواطن المصري مغتربا عما يسمى بالدولة المصرية، على الأقل كما يطرحها السياسيون و"المفكرون" القوميون المصطفون مع الجيش. ونحن اليوم نفكر في كيفية إعادة بناء مصر على نهج يدمج الحكومة المحلية الفعالة وتمكين المجتمع المدني مع آليات أفضل لصناعة القرار على المستوى الوطني، وسيشكل هذا الانتقال تحديا ولا شك في ظل استقرار عرف السلطة المركزية في الثقافة المصرية.
ورغم كل شيء، فقد تعرض هذا العرف للكثير من الضغوط خلال الخمسين سنة الأخيرة نتيجة ضعف كفاءة الدولة، الناتج غالبا بسبب الفساد وسوء الإدارة. وقد نخرج من دراسة أدق لآليات حل النزاعات، ولبنية الاقتصاد غير الرسمي والجزئي وأنماط السلوك فيهما – مع التركيز على اللامركزية والسلطات المحلية على وجه الأهمية – على سبيل المثال، بدروس قيمة تفيد في إعادة صياغة الحوكمة في مصر.
(عن المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية)