لعلّ من الخير، وفي باب إنصاف التاريخ المعاصر أيضا، أن يعود مراقب الشأن المصري الراهن ـ وفي ملفّ الحقوق والحريات العامة، تحديدا ـ إلى إحدى الركائز الكبرى التي كانت وراء انقلاب المشير عبد الفتاح السيسي، ثمّ صعود نجمه إلى ما هو عليه اليوم.
تلك الركيزة انبثقت من جدل الأسابيع الأولى بعد انتفاضة ميدان التحرير، حين بات من المشروع أن يُطرح سؤال الخيار الختامي الذي سوف يستقرّ عليه الجيش المصري: أن يقف مع الشعب، فعلا، في وجه مؤسسة رئاسية بدأت عسكرية منذ سنة 1952، مع محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، وهكذا ظلت؟ أم يلجأ إلى تكتيكات الالتفاف على الشارع الشعبي، والمناورة المؤقتة ما أمكن ذلك، لإنضاج «طبخة» ما، على نار ليست هادئة بالضرورة، تعيد إنتاج ماضي المؤسسة الرئاسية، مع تصحيحات هنا وهناك، تشمل الخطاب والوجوه وبعض الأجهزة، وتجمّل الصورة القبيحة في هذا التفصيل أو ذاك؟
ولقد اتضح، سريعا في الواقع، أن المؤسسة العسكرية المصرية لا تنوي قطع حلقة الرئاسات العسكرية، من جهة أولى؛ وهي بالتالي لم تكن راضية عن برنامج التوريث الذي انخرط فيه آل مبارك، بالتعاون مع حيتان النهب والفساد. وهكذا كانت المؤسسة، التي تشرف أيضا على جهاز المخابرات العامة، قد استذكرت تلك الحكمة العسكرية التي ترى في الدفاع خير وسائل الهجوم؛ فبادرت إلى استثمار احتجاج الشارع الشعبي، وأعادت حشر الجيش كرقم صعب في المعادلة السياسية الداخلية.
والخطأ الحسابي القاتل، والغبيّ تماما في الواقع، الذي وقع فيه محمد مرسي، الرئيس الوحيد المدني في تاريخ مصر الحديث؛ كان اليقين بأنّ تحييد المؤسسة العسكرية (ممثّلة، يومذاك، بمجموعة المشير حسين الطنطاوي ورئيس الأركان سامي عنان)، يمكن أن يتمّ بيسر وسهولة، عبر ترقية ضابط مغمور، إسلامي الهوى (كما لاح لجماعة الإخوان المسلمين، يومئذ) يدعى… السيسي!
بدوره، كان هذا الضابط، القادم من الصفوف الخلفية، قد تنبّه جيدا إلى أنّ الشرعية الحقوقية والدستورية التي امتلكها مرسي، أخذت تتصادم تدريجيا، ولكن على نحو منهجي منتظم، مع إرادة شعبية واسعة النطاق أخذت تُسَائِل الكثير من أهداف انتفاضة 25 يناير 2011، وتلحظ خسوفها وانقلابها إلى النقائض. كذلك راقب السيسي، بعين ضابط الاستخبارات هذه المرّة، أنّ زخم ميدان التحرير الديمقراطي والمطلبي والوطني، صار يُختصر في تجاذبات أقرب إلى دائرة مفرغة، بين جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة المستفرِدة، وجماعات المعارضة المتشرذمة والعاجزة عن بلورة مشروع معارِض مضادّ ذي مصداقية كافية. وبذلك بدت الإنجازات الديمقراطية (الانتخاب، والتصويت، والحرّيات السياسية والنقابية والإعلامية…) وكأنها السطح الساخن الظاهر، الذي يخفي غليان الأعماق كما جرى التعبير عنه في ثقافة «ملء الميادين»، على الطرفين في الواقع، ولكن بمعدّلات أعلى وأشدّ فاعلية في صفوف القوى الشعبية المناهضة لسياسات مرسي والإخوان.
والحال، أنّ فئات المعارضة المصرية التي أبهجها انقلاب العسكر على مرسي، وضدّ الإخوان عموما، كانت قد ارتكبت خطأ جسيما حين ظنّت أنّ قهر الرأي وقمع حرّية التعبير وحظر النشاط السياسي، هي الوسائل المثلى لمحاربة الإخوان. التجارب أثبتت سطحية هذا التقدير وخطورته، كما برهنت على أنه ينتج نقيضه في نهاية المطاف. وهذه مآلات يترجمها المشهد الراهن لانتهاك الحقوق والحريات العامة، وابتذال الخطاب السياسي لرأس النظام نفسه، والتفريط بالمياه والأرض والثروات، وإعادة تأهيل الفساد والنهب بوتائر أخبث مما كانت عليه خلال عهد مبارك، فضلا، بالطبع، عن تدني الإعلام المصري، الرسمي والخاص، على نحو مريع.
طبخة مسمومة، إذا، على غرار ما طبخت عسكرتاريا العالم العربي طيلة عقود؛ ولا عزاء لمَن ابتلعها، وهو عارف مدرك!