عندما حقق رئيس حزب العمال الحالي جيرمي كوربن فوزا تاريخيا في سبتمبر الماضي وصعد إلى منصب زعيم حكومة الظل المعارضة في بريطانيا، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية صورة تخيلية كبيرة له على باب مقر رئاسة الوزراء في إطار مقال يتبنأ بأن يصبح رئيس وزراء بريطانيا عام 2020. كان الكاتب هو النائب العمالي كريس مولين الذي نشر رواية بعنوان "انقلاب بريطاني جدا"عام 1982 يتنبأ فيها بوصول زعيم يساري له جماهيرية إلى سدة الحكم في البلاد ويطبق كل الشعارات التي كان يطالب من أجلها بدءا من الانسحاب من حلف شمال الأطلسي الناتو وحتى تأميم القطاعات المصرفية. وكان مولين يتنبأ هذه المرة كيف سيكون عليه الحال إذا استمر نجم كوربن في الصعود ليصل إلى هذا المنصب.
ويبدو أن ما بدأ خيالا يخشى كثيرون من أن يصبح حقيقة، خاصة في حزب المحافظين الحاكم. فرغم أن الانتخابات التشريعية البريطانية المقبلة لا تزال بعيدة نسبيا بعد أربع سنوات، إلا أن هناك عدة مؤشرات تبعث على القلق لدى المحافظين. منها على سبيل المثال تسريبات وثائق بنما ودور أسرة رئيس الوزراء البريطاني الحالي ديفيد كاميرون فيها واسمه الذي ورد في القضية. الأمر الذي هز شعبيته كثيرا وخصم من رصيده. يترافق هذا مع اتجاه كافة المؤشرات والاستطلاعات لفوز المرشح العمالي المسلم صادق خان لمنصب عمدة لندن أمام منافسة المحافظ زاك غولدسميث الذي تتراجع حظوظه في الفوز يوما بعد أخر في الانتخابات التي ستجرى بعد أيام. وهو المنصب الذي انتزعه المحافظون قبل عدة سنوات ويعد مؤشرا قويا على اتجاهات الناخبين في عاصمة البلاد.
عند هذا الحد، قد يبدو الأمر طبيعيا في مسار السياسية البريطانية العادي. لكن الجديد أن حزب العمال المعارض الذي حلَّ في المركز الثاني في الانتخابات الماضية ويشكل المعارضة الرئيسية في البلاد يمر بمخاض كبير بين رجال رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، مؤسس ما يعرف بالعمال الجديد وهي الفكرة السياسية التي طرحها بلير والتي تبتعد بالحزب عن الخط اليساري التقليدي وتقترب كثيرا من أفكار المحافظين، وبين زعيم الحزب كوربن وقواعد الحزب الرافضة لهذا التوجه وتعتبره وجها آخر لسياسيات حزب المحافظين. ليس هذا وفقط، لكن الشعبية المفاجئة التي صعدت بكوربن من الصفوف الخلفية للحزب إلى سدة الزعامة شكلت رافعة لأجيال جديدة من الشباب للانخراط في الحزب أعطها فوز كوربن أملا كبيرا في التغيير. فقد زادت أعداد أعضاء الحزب من نحو مئتي ألف إلى أكثر من ثلاثمائة وثمانين ألف في غضون ستة أشهر. وإذا علمنا أن كل أعداد حزب المحافظين الحاكم يبلغون مئة وخمسين ألفا عضو طبقا لأخر إحصاء، تبرز لنا المفاجأة الدالة وهي أن نسبة الأعضاء الجدد بعد دخول كوربن السباق تتجاوز نسبة كل أعضاء حزب المحافظين.
بسبب كل هذه المعطيات لا يزال كوربن يتعرض لهجوم كبير في وسائل الإعلام بشكل غير مسبوق. فلا يريد كثيرون أن يتخيلوا أن النائب الذي يقود دراجته الهوائية بنفسه ويهتف في المظاهرات من أجل فلسطين ويرتدي ثيابا متواضعة ويناصر المسلمين في قضايا الإسلاموفوبيا قد يكون رئيس الوزراء في يوم من الأيام. لكن الواقع أنه نجا من كثير من الفخاخ التي نصبها له خصومه في حزب المحافظين وزملاؤه المناوئين لتوجهه داخل حزب العمال وكثير منهم أعضاء في البرلمان وحتى في حكومة الظل التي يقودها. وقد لوت صحيفة التايمز، ذات التوجه اليميني، عنق استفتاء أجرته منظمة "يو غوف"البريطانية والذي يظهر بوضوح أن كوربن يتقدم على رئيس الوزراء البريطاني الحالي في استطلاعات الرأي لتبرز بدلا من هذه النتيجة تأثيرها على الاستفتاء المزمع إجراؤه على استمرار عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
إن الاتجاه الذي يمثله كوربن يحصره كثيرون في إطار فكرة اليسار التقليدي لكنه في الحقيقة متجاوز لهذا الإطار ويقترب أكثر من فكرة جديدة تعتمد على العودة إلى تمثيل قطاعات شعبية وشبابية غائبة عن الساحة السياسية في بريطانيا والمراهنة عليها. وقد أفلح هذا الرهان في مراحله الأولى على مستوى زعامة حزب العمال. لكن مستوياته الأخرى لا تزال في دور التشكل حاليا في مباراة سياسية ستمتد خلال السنوات القادمة تستحق المشاهدة والمتابعة، لأن تأثيرها نتائجها لن يكون محصورا داخل بريطانيا فقط.