كتاب عربي 21

المقارنة بين جيلين: من الإيديولوجيا إلى التصحر

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
يكاد ينقرض الجيل الذي أنتج نوعية خاصة من المثقفين العرب ممن تركوا بصماتهم بين فترتي الستينيات والعشرية الأولى من الألفية الثانية. وعندما يلقي المتأمل نظرة خاطفة على بعض الأسماء التي بقيت تؤنسنا بوجودها وأفكارها من تلك المرحلة، يمكن أن نستحضر أربعة أسماء على الأقل من ذلك الجيل الذي مهما قيل عنه، إلا أنه تميز بتكريم الفكر والمثقفين. من هؤلاء حسن حنفي والطيب التيزيني من المشرق، وعبد الله العروي وهشام جعيط من المغرب العربي. أما الأغلبية من زملائهم فقد سبقوهم إلى عالم الغيب لعل آخرهم محمد عابد الجابري الذي كرمه بعض تلامذته عندما أسسوا جمعية باسمه تحافظ على تراثه، وتسير على دربه.

ليس من الموضوعية القول بأن هذا الجيل هو المسؤول عن الضياع الفكري والثقافي الذي يشكو منه العرب اليوم. إذ لا شك في كونه قد ارتكب أخطاء كثيرة، لكن لا يمكن إنكار أنه اجتهد، وحاول أن يسد الفراغ، وأن يواصل مسيرة من سبقوه في مرحلة مقاومة الاستعمار، كما تصدر لمهام وتحديات بناء الدولة الوطنية وما ترتب عنها من تحولات. هم لم يكونوا كتلة واحدة، بقدر ما كانوا متنوعين في اتجاهاتهم الفكرية وحتى السياسية بالنسبة لمن كان منهم مرتبطا حزبيا، لكن من معضلات المرحلة الحالية أن الجيل الجديد في غالبيته العظمى لم يقرأ لهؤلاء، ولم يطلع على ما أنجزوه وما صاغوه من كتب وأطروحات ومواقف. وهو ما جعل الجيل الجديد يعيش أنماطا من الغربة والفقر المعرفي المخيف.

لقد ذهل كل من عاش المرحلة السابقة، وهو يزور معرض الكتاب الذي نظم مؤخرا في تونس. لم يعبأ أغلب الزوار، الذين كان عددهم بالمناسبة قليل، بالأجنحة الخاصة بالكتاب الفكري والفلسفي، واتجه معظمهم نحو الكتاب العلمي والأدبي بالمعنى الخفيف للكلمة. هذا المشهد لم يكن يحدث خلال الستينيات وخاصة في الثمانينيات. كان الطلاب وعموم الشباب يتوجهون باكرا نحو قصر المعارض ليحجزوا أماكنهم في صدارة الصفوف المتراصة بمدخل المعرض. وقد كان الإسلاميون يسبقون اليساريين بحكم أنهم يتوجهون إلى الهدف بعد أداء صلاة الصبح مباشرة. وعندما تفتح الأبواب يندفع كل فصيل نحو محاضنه المفضلة، ويتوزعون بين كتلتين، واحدة تتجه نحو صنف من دور النشر المختصة في الكتاب الديني مثل "الشروق" و"الرسالة"، والكتلة الأخرى تسرع نحو "دار الطليعة" وما شابهها بحثا عن الكتاب اليساري والتقدمي. ومن خلال ذلك المشهد المضحك أحيانا من حيث طريقة الاندفاع وفرز العناوين تتشكل لديك فكرة عن ميزان القوى داخل الجامعات وخارجها. وعلى سبيل المثال، وبسبب تلك اللهفة الأيديولوجية على امتلاك الكتاب ومطالعته، كان بعض الطلاب اليساريين يحللون سرقة الكتب من أجل اكتساب الوعي الثوري. ولن يمض وقت طويل حتى تنطلق النقاشات الحادة داخل ساحات الجامعات وأروقة الكليات، كل يحاول أن يستعرض قوته من تلك النصوص التي استهلكها مع إخوانه أو رفاقه وتسلح بها لخوض السجالات الطويلة والحادة أحيانا، هذا يريد أن يثبت رجعية خصومه، والآخر يعتبر نفسه الناطق باسم الفكر الرسالي.

كان ذلك بعض ما ميز مرحلة الستينيات وصولا إلى أواخر الثمانينيات. لقد كان كبار المثقفين يومها في علاقة جدلية مع هذه السوق التي تعج بالصراع الأيديولوجي، يجتهدون لمساندة هذا الطرف أو ذاك، يسلحونهم بالأفكار، ويستجيبون لاحتياجاتهم وتطلعاتهم ونجدتهم كلما تم اكتشاف نقص في رؤية أو في منظومة.

اختلف المشهد اليوم. لقد أصيب الجميع بفتور ثقافي مخيف. قد يعود ذلك إلى تراجع مستويات التعليم بمرحلتيه الثانوية والجامعية، كما عوضت الأنترنت والوسائط الاجتماعية الكتاب دون أن تقدم للشباب نفس الثقافة التي كانت توفرها المطالعة المتأنية. كما يمكن أن تكون المحنة التي مرت بها الأيديولوجيا على إثر فشل مشاريع المرحلة السابقة. فمعظم التيارات التي كانت تملأ الساحات والمكتبات وتتصدر المشهد الثقافي، أصيبت بنكسة حادة مما أفقدها ذلك البريق القوي الذي كان يميزها من قبل. حتى من بقي حيا من أصحاب الفكر والقلم أصيبوا برجة قوية جعلتهم يلجؤون إلى غرفهم ومكاتبهم الخاصة يفكرون في مصير هذه الأمة دون أن تكون لهم الحلول العاجلة التي يطلبها الكثيرون، أو يستغلون ما تبقى لهم من عمر من أجل إتمام بعض مشاريعهم الفكرية والعلمية، دون يقين منهم بأن ما سينجزونه قريبا قد يكون له صدى في أجواء هذه الفوضى السياسية والفكرية العارمة.

لا يعني أن الثقافة ماتت في مجتمعاتنا. هناك حد أدنى من المقاومة، لكن المشكلة أن معظم الشباب العربي يتحرك بعيدا جدا عن أجواء هذه المقاومة، حتى كأنه يعيش في عالم منفصل، وعندما يحاول البعض مشاكسته فكريا يلاحظ بأن لغة الخطاب أصبحت عاجزة عن إيصال المعاني، فكأنك تخاطب صينيا بلغة عربية تعود استعمالاتها إلى العصر الجاهلي. لقد بلغت عمليات تسطيح الوعي درجات متقدمة جدا، مما جعل الحاسة النقدية تتعطل أحيانا بشكل كامل. ولهذا لا يمكن فهم الأسباب العميقة التي أدت إلى ظهور "الخطاب الداعشي"، وامتلاكه كل هذه القوة والسطوة لدى الآلاف من الشباب في ظرف وجيز إلا دليل قاطع على أن قدرات التمييز بين الأفكار والمفاهيم والمآلات قد ضعفت إلى حد كبير مما وفر المناخ الملائم لإطلاق الأفكار المجنونة.
1
التعليقات (1)
عابر سبيل
الأحد، 01-05-2016 08:02 م
بالتأكيد ليس من الموضوعية القول بأن بعض الأسماء المذكورة المسؤولون عن الضياع الفكري والثقافي الذي يشكو منه العرب اليوم، لإن وزنهم الثقافي أقل من أن يجعلهم سبباً لأي شيء.