منذ فجر الدولة الإسلامية الأولى – دولة النبوة بالمدينة المنورة – كان القضاء المستقل سلطة من سلطات هذه الدولة، فالقاضي ملتزم بالكتاب وبالسنة، فإن لم يجد فيهما نصا، اجتهد في الحكم، أي أنه مستقل – بالاجتهاد – في قضائه، داخل إطار البلاغ القرآني والبيان النبوي لهذا البلاغ.
وفي تقنين هذا المبدأ، ورد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع معاذ بن جبل، عندما عينه قاضيا باليمن، وسأله: "كيف تقضي؟ فقال أقضي بكتاب الله، فقال الرسول: فإن لم يكن في كتاب الله؟ فقال معاذ: فبسنة رسول الله، فقال الرسول: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ فقال معاذ: أجتهد رأيي، فقال الرسول: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله".
ورغم بساطة الدولة يومئذ، وضيق مساحتها وقلة سكانها، وتقوى الناس الذين كانوا يعيشون في ظلال النبوة، فلقد أولت هذه الدولة الوليدة مرفق القضاء أهمية كبرى، فعينت عددا كبيرا من فقهاء الصحابة للقضاء بين الناس، وكان منهم على سبيل المثال: علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل والعلاء بن الحضرمي ومعقل بن يسار وعمرو بن العاص وعقبة بن عامر وحذيفة بن اليمان العبسي وعتاب بن أسيد ودحية الكلبي وأبو موسى الأشعري وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود.
ولقد ازدان تراثنا الإسلامي بفن من فنون التأليف اختص بالقضاء وقواعده، وبالقضاة والآداب التي يجب تحليهم بها، وفي التأسيس لهذا الفن نقرأ رسالة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، (40 ق. هـ - 23 هـ، 584 – 644م) إلى القاضي أبي موسى الأشعري (21ق.هـ - 44 هـ ، 602 – 665 هـ) تلك التي تضمنت العديد من القواعد والآداب التي يجب أن تحكم هذا المرفق الهام في دولة الإسلام، ففي هذه الرسالة يتحدث عمر عن القضاء "كضرورة واجبة"، لأنه السبيل لوضع الحق موضع التطبيق: "إنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له".
وإذا كان الحق هو غاية الشريعة، فلا حرمة للباطل، حتى ولو جاء ثمرة لاجتهاد خاطئ، ولا شرعية لهذا الباطل حتى وإن نطق به القاضي، ومضت عليه الأزمنة، ووضع موضع التطبيق: "ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه نفسك، وهديت رشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق لا يبطله شيء، واعلم أن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".
وفي هذا الذي كتبه عمر قبل أربعة عشر قرنا تشريع "للاستئناف" و"النقض" وتعدد درجات التقاضي.
ولأن الحق هو المعيار – في القضاء – فهو كذلك عند التصالح: "والصلح جائز بين الناس، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا".
والمساواة بين المتخاصمين، واجبة في مجلس القضاء، بل وفي وجه القاضي، فلا يحل له أن يعبس لطرف ويبش لطرف آخر "آس بين الناس في مجلسك ووجهك".
والمؤمنون عدول في الشهادة، ما لم يثبت ما يقدح في عدالة الشاهد: "والمسلمون عدول في الشهادة إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة".
والاجتهاد – الفهم – وكذلك القياس، فيما ليس فيه نص، أبواب مفتوحة أمام القضاة: "الفهم الفهم فيما ليس فيه قرآن أو سنة، واعرف الأشياء والأمثال ثم قس الأمور بعد ذلك".
إنها القواعد المؤسسة للقضاء العادل، عبر الزمان والمكان.