فجأة وبدون سابق إنذار تحول مشهد تنازل العسكر وببساطة شديدة عن جزر مصرية ارتبطت في الذاكرة المصرية بحروبنا مع العدو الصهيوني، تحول هذا المشهد من مشهد يفترض فيه أن يقف الجميع صفا واحدا للدفاع عما يسمونه عرفا وثقافة وسياسة وتاريخا، التراب الوطني، إلى مشهد يتبارى فيه ساسة العسكر وإعلاميوه في التبرؤ من الجزيرتين في بلاهة سياسية قل أن تجد لها نظيرا.
المشهد المصاحب لزفة التنازل عن الجزر يعطيك فكرة عن طبيعة التحول الذي حدث منذ الانقلاب وأشرت إلى بعضه في سلسلة مقالاتي (محنة التفكير)، وأعني به مسألة "خلجنة" المنطقة أو "سعودتها" وهو أمر تباهى به مفكر سياسي كويتي هو عبد الله الشايجي أستاذ العلوم السياسية الكويتي في ندوة له حول قيادة المنطقة.
الانقلاب الذي حدث بإرادة عسكرية وتدبير إسرائيلي ودعم مخابراتي أمريكي وتمويل إماراتي وسعودي لم يكن الغرض منه إذن هو إبعاد الإخوان وحسب (وبالمناسبة تعتبرهم السعودية الخصم الاستراتيجي ربما بعد إيران وقبل إسرائيل)، بل كان الغرض منه أنه يأتي ضمن خطة لتوسيع نطاق الأمن القومي السعودي و(سعودة) المنطقة بأسرها وفي القلب منها مصر.
لقد تراءى للبعض مع بدايات الانقلاب أن مصر قد تحولت إلى مستعمرة إماراتية ولكن حادثة الجزر وما صاحبها من وفد كبير ضم ثمانمائة رجل أعمال وما يقارب العشرين وزيرا سعوديا برئاسة ملك السعودية وبحضور نجله وزير الدفاع والرجل الثالث في السلطة يعطيك انطباعا بأن الإمارات كانت مجرد محطة على الطريق أدركت السعودية معها أن مصر مستباحة، بل هي صيد ثمين في ظل وجود حاكم مستبد وجنرال أخرق ورط مصر في عدة ملفات وأصبحت معه على حافة الهاوية ، هنا جاء التحرك السعودي بمنطق (الفرصة التي لا تعوض )، فبلد بحجم مصر مأزوم اقتصاديا حتى الهلاك ، وسياسيا حتى النخاع يمكن تطويعه أو شراؤه بثمن بخس هو في نظري أقل من شركة عالمية في أمريكا أو كندا أو أوربا.
السعر الذي دفعته المملكة - ومن حقها البحث عن مصالحها ولكن ليس على حساب تراب وطننا–جاء في إطار إستراتيجية شاملة للسيطرة على الإقليم فبعد سقوط بغداد وانهيار دمشق وتفكك بيروت جاء الدور على القاهرة لتتحول من مركز قوة وتأثير إلى نقطة ضعف يمكن استثمارها واستغلالها، وهنا يتجاوز الأمر موضوع الانقلاب وعودة الرئيس محمد مرسي إلى ما هو أبعد وهو السيادة الوطنية المصرية التي باتت على المحك.
يكفي للتدليل على هذا الاستنتاج أن نعلم أن مطارات مصر تقع أمنيا في الوقت الراهن تحت السيطرة الأمريكية والبريطانية والروسية، وأعني بالسيطرة أن شركات أمنية من تلك البلدان تقوم بالتفتيش على المطارات وهو ما يضع أحد أهم عناصر الأمن القومي في أيد أجنبية، أضف إلى ذلك أن مصر ومنذ الانقلاب تقع تحت الهيمنة والإشراف المباشر للإمارات اقتصاديا، فهناك وزير إماراتي شبه مقيم بالقاهرة وهو الذي يشرف مباشرة على إدارة الاستثمارات في مصر برمتها .
إذا أضفنا إلى ذلك محاولات نقل الثقل الثقافي للعاصمة المصرية إلى الإمارات وتحويل جامعة القاهرة العريقة إلى منصة حفلات لتكريم فنانين وفنانات برعاية مؤسسات إماراتية، ونقل الزخم الثقافي الفني و الفكري والأدبي أو محاولات نقله إلى أبو ظبي ودبي والشارقة كل ذلك يعطيك فكرة عن الاحتلال الجديد عبر النقد العابر للحدود والقادم جوا وبرا وبحرا من منطقة الخليج.
لقد عرف تاريخنا المعاصر مصطلح "الغزو الثقافي والفكري" واليوم نحن أمام حالة جديدة من الغزو الاقتصادي والهيمنة عبر الهيمنة على القرار الاقتصادي وتحويل مصر من دولة تقرر حكومتها متى وكيف ومع من تستثمر، إلى دولة لا تملك سوى الانصياع الى قرار المستثمر وهو في هذه الحالة ليس فردا أو مجموعة شركات بل دول ترى أن مصر في مرحلة احتضار وأن على هذه الدول أن تحصل على جزء من الكعكة المصرية قبل أن تقع في يد آخرين ربما لا ترغب السعودية في وصولهم إلى مصر.
وهنا أعني على وجه التحديد إيران التي وصلت إلى عواصم عربية من قبل مثل بغداد واليوم في سوريا ومن قبلها بيروت وحاولت ولا تزال في اليمن ، كما أنها نجحت في إشعال الموقف في البحرين .
هذه الصورة توضح وبجلاء أن مصر لن تقوم لها قائمة بعد الانقلاب ، فقد ضاع القرار السياسي ورضخت سلطة الانقلاب لمتطلبات الغرب في الهيمنة والإشراف على مرافقها الحيوية واليوم تتنازل عن جزر لها قيمة جيو-إستراتيجية كبيرة ولا أحد يدري ما هو التالي في قائمة البيع والتنازلات.
حكم العسكر لا تنتهي مفاجآته وصدق من قال (مع العسكر مش هتقدر تغمض عينيك)!.
1
شارك
التعليقات (1)
صالح
الخميس، 14-04-201610:04 م
واحد باع الشرف والعرض فلن يتردد عن بيع االارض واذا باعالجزر سيبيع بعدها سيناء من يهنيهون الهوان عليه ما لجرح بميت ايلام . عواد اعتاد وخلاص ولا احد يريد انيعيده ولا ان يوقفه.