قضايا وآراء

تلك العلل الخفية وسوءاتها.. كرومويل نموذجا

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
كان حلمه أن يكون ملكا متوجا.. فالرجل كان من العامة.. صحيح أنه كان من ملاك الأراضي لكنه لم يكن نبيلا.. وكان يحمل حقدا دفينا على طبقة النبلاء والملوك الذين طالما رآهم أقل منه مقدرة وأقل منه كاريزما وأقل منه ذكاء.. لم تكن المواقف السياسية والرغبات الإصلاحية فقط هي التي كانت تحكم اختياراته ومواقفه.. هذا هو المعلن أمام الناس.. ودائما وفي كل وقت ستقبع خلف كلمات السياسة والتاريخ والوطن والطبقة والنضال والشعب والإصلاح والتغيير.. ستقبع مفاتيح أخرى لا تتصل بهذه الكلمات إلا بقدر ما هي وسائط لإشباع مسعى يرجع لأول الصبا.. إنها العلل الخفية وسوءاتها.

إنها عقد الأزمنة البكر في حياة أمثال أوليفر كرومويل(1599-1658م).. إنه ليس إلا سياسي يتطلع إلى المجد الأسمى لشخصه وذاته ولذلك العملاق الفتاك القابع بداخله وهو(الأنا)... لم يكن لدى كرومويل سابق خبرة عسكرية قبل الحرب الأهلية التي نشبت بعد صراع الملك والبرلمان، ولكن قدرته على التآمر والتلاعب وثبات إرادته وصموده لتحقيق أهدافه وأيضًا براعته في التلاعب بالأحاسيس الدينية والسياسية لدى الناس.. كل ذلك هيأ له القدرة على تشكيل مواقفه وقواته العسكرية على نظام فذ وولاء فريد... فأطاح بملك إنجلترا تشارلز الأول "1600-1649م"، وصارت السلطة بين يديه.

وبدأت محاكمة الملك تشارلز الأول وهي المحاكمة التي ستجعلنا نضرب أكفنا بعضًا ببعض من الحوار الذي دار فيها بين الملك والقضاة.. وإذ يجلس القضاة على منصة مرتفعة في طرف من قاعة "وستمنستر" الشهيرة ويصطف الجند في الطرف الآخر وتكتظ الدهاليز والشرفات بجمهور المتفرجين.. يجلس الملك وحده وسط القاعة، وبعد أن يتلو رئيس الجلسة قرار الاتهام، يطلب من الملك أن يجيب.. فينكر الرجل في إباء وشمم سلطة المحكمة من الأصل في محاكمته أو حتى صحة تمثيلها لشعب إنجلترا (قال للقاضي من أنت..؟!) فيقول مقولته الفذة بأن (محكمة يديرها برلمان ويسيطر عليه الجيش هي أسوأ طغيانا من أي طغيان صدر مني على الإطلاق...!!) يا للتاريخ الذي يصول ويجول في الأزمان كلها..

حين قال الملك ذلك ضجت الشرفات بالهتاف "حفظ الله الملك".. كان كرومويل يعتقد بيقين أن بقاء الملك على قيد الحياة مهما يكن من اطمئنان إلى ضمان سجنه أو نفيه.. يمكن أن يحفز الملكيين إلى معاودة الثورة المرة بعد المرة.. إذ أن الرجل يجسد شرعية الحكم وسوف يكون وجوده حيًا حافزًا على تجدد المقاومة ضد الانقلاب.

ليس أدق في التوصيف من الشعراء والروائيين الذين يمتلكون "جهاز الحس في الجنس البشرى" كما يقول العلامة على عزت بيجوفيتش.. ما بالك إذا كان هذا الشاعر والروائي هو فيكتور هوجو صاحب "البؤساء" والعدو العتيد لنابليون بونابرت.. فيكتب عام 1827م رواية من أروع رواياته "مقدمة كرومويل".. ويصف لنا نزعات التسلط لديه والرغبة الجامحة في امتلاك السلطة المطلقة في كلتا يديه.. قائلا: "واليوم وهو يقبض علي كل شيء بيديه من خلال نجاح الانقلاب وسيطرته على البرلمان يعرف قبل الجميع أنه إذا لم يعترف به ملكا شرعيا لن يساوي كل ما حققه الآن شيئا.. كان الرجل رغم تظاهره بالدعوة إلى إقامة الجمهورية يؤمن في قرارة نفسه وأيضا لحسابات نفسه بالملكية.. كان يصرح بذلك لمن حوله.. لكن الخجل يمنعه الآن من المطالبة بالنداء به ملكا.. سيقول الجميع إنه فعل كل ما فعل من أجل أن يصبح ملكا؟؟

 البرلمان وأعيان لندن والهيئات.. كل هؤلاء على وشك أن يتوجوه ملكا.. لكن شيئا من القلق يعتمل في أحاسيسه الداخلية يدعوه إلى الحذر والانتباه.. ذات ليلة خرج متنكرا ليعرف ماذا يحدث من حوله فيكتشف أن ثمة مؤامرة حقيقية تستهدفه الجمهوريين الطهرانيين الذين ساندوه في الانقلاب للتخلص من الملكية وإقامة الجمهورية.. الكاثوليك من أنصار الملكية.. لا ينتظرون سوى غفلة منه حتى ينقضوا عليه.. حين وقفوا بجانبه وآزروه لم يكن ذلك من أجله.. ولكن من أجل إنجلترا.. فإذا كان سيحول كل المكاسب لصالحه فإنهم حتما سيفضحونه ويتخلصون منه بسرعة.. هذا هو فحوى المؤامرة.. "توازن القوى" الذي مكنه من أن يكون (سيد اللعبة) سينقلب ضده من اللحظة التي سيعلن فيها قبوله لتاج إنجلترا المعروض عليه.."

هكذا وصف فيكتور هوجو المشهد.. لكن الرجل كان أكثر دهاءً من الجميع فيكون كومونولثا يضم "إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا" ويكون "حاميًا" عليه.. وإذ يمكث أحد عشر عامًا يحكم حكمًا ديكتاتوريا.. يموت ولكن قبل موته يأبى ألا يفضح ما في أعماق نفسه فيرتب الأمور ليرثه ابنه..!! لكنه يفشل في ذلك..

وتدخل إنجلترا في فوضى سياسية فيستدعي البرلمان ابن الملك الذي قتل غدرا، من منفاه في فرنسا تشارلز الثاني (1661م) وينادى به ملكًا على البلاد.
0
التعليقات (0)