سيرفض البعض عنوان المقال من البداية ويقول أين المعارضة أصلا في
مصر؟ إنها كيان هلامي لا معالم له ولا توجد كتلة واحدة متماسكة يمكن وصفها بالمعارضة السياسية في مصر؟ قد يكون هذا الكلام صحيحا بالفعل لكن هل يعني هذا استحالة تشكل تيار حقيقي للمعارضة قد يأخذ شكلا تنظيميا أو حتى إطارا فكريا تتمازج فيه الرؤى وتتلاقى على أجندة واحدة من أجل صناعة البديل السياسي الذي يوفر خيارات آمنة للمستقبل؟
الإجابة قطعا لا، بل إن فرص تكون هذا التيار تزداد يوما بعد يوم إثر الإخفاقات المتوالية للنظام الحاكم، أحد أسوأ مشاكل المعارضين في مصر أنهم مستهلكون في ردود أفعال يومية لكوارث وأحداث لا تتوقف ومن ثم يغلب على النقاش العام القضايا المطلبية والاحتجاجية فقط - مع الاقرار بأهميتها - دون أن يتبلور في الأفق مشروع وطني واضح يطمئن المصريين أن هناك من يستطيع إدارة البلاد بكفاءة ومهنية في حالة تغير النظام.
فزاعة غياب البديل فزاعة مكررة من كل الأنظمة الشمولية التي تحرص على تقديم نفسها للشعب بأنها المنقذ الوحيد الذي يجب أن يستمر وأن تغييرها يعني الفوضى والخراب وفي أغلب الحالات تفتقر هذه الأنظمة إلى المشروعية السياسية ومشروعية الإنجاز لكنها تقتات على فكرة صناعة الأمان الوهمي والاستقرار الزائف، لذلك فالبداية تأتي من تكسير الفزاعة التي تجعل وجود البديل فكرة مستحيلة أو صعبة بينما يقول الواقع إن البديل لا يحتاج سوى لمجموعة من التكنوقراط الناجحين مهنيا تقودهم عقلية سياسية على وعي بنفسية الجماهير وقراءة الواقع ومفرداته بشكل صحيح.
ما الذى يتوفر من ذلك للمعارضين في مصر؟ غالبية التكنوقراط المميزين مهما كانت درجة استقلاليتهم الذاتية وبعدهم عن التحزب السياسي إلا أنهم لن يكونوا في صف نظام متخبط ينتهج العشوائية ويقصي الكفاءات لصالح أهل الثقة، هناك بالفعل عدد غير قليل من هؤلاء يفضل الابتعاد عن تحمل المسؤولية وعن العمل العام بسبب بؤس المشهد السياسي وعبثيته لكن في حالة استرداد الثقة وتحسن المناخ العام سيتقدم هؤلاء لتحمل المسؤولية، وهذا حدث بالفعل عقب ثورة يناير حين أقبلت العقول المهاجرة وأصحاب المشاريع والرؤى بالداخل يعرضون المساعدة من أجل إعادة بناء الوطن ثم خابت أمالهم وأصيبوا بالإحباط جراء السياسات التي حكمت البلاد إلى الأن وتسببت في انعزال هؤلاء وابتعادهم عن المشهد البائس.
تتبقى العقلية السياسية أو بمعنى أدق القيادة أو الرمز الذي يلتف الناس حوله، وهذا نقطة ضعف شديدة في المشهد المصري لاحتراق رموز سياسية كبيرة خلال الفترة الماضية وانتهاء صلاحيتها السياسية وانطفاء توهجها الجماهيري بسبب خيبات أمل متلاحقة وبسبب مواقف متخاذلة أو صادمة كسرت رمزية قيادات هذا الجيل الأكبر في عيون الجميع وتخطاهم الزمان دون أن تنجح الوجوه الشابة في إفراز قيادات جديدة تتصدر المشهد وتستطيع إقناع الجماهير بقدرتها على تقديم البديل السياسي الذي تنتظره.
لذا فالنموذج القيادي الذي تنتظره مصر قد يكون جماعيا وليس فرديا، هو نموذج قيادي يتخطى رمزية الأشخاص إلى إنجازهم كفريق عمل يمتلك أطروحات تجديدية تتخطى التحزب الأيدلوجي البغيض وتتسامى فوق تفاهات التراشق بين التيارات السياسية التقليدية ما بين يسار ويمين، ليس ائتلافا سياسيا بين مختلفين بقدر ما هو مشروع جامع يعمل من أجل استعادة الديموقراطية وبناء الدولة المدنية الوطنية الحديثة.
غياب الحوار الحقيقي المباشر بين هؤلاء الفرقاء الذين يعانون جميعا من إيذاء السلطة يبعدنا عن تحقيق الهدف، كذلك التمسك بالتفاهات والمعايرات المتبادلة والمكايدة السياسية – بين أطراف كلها أخطأت - أصبح يصب في مصلحة استمرار الوضع القائم بكل ما فيه من جناية على المستقبل، نحن لا نريد ذوبان الهويات السياسية والمرجعيات الفكرية لاستحالة ذلك لكننا نريد ذوبان الثارات الشخصية والتشوهات النفسية التي تسببت في مزيد من التصدع داخل الصف الثوري المناضل من أجل الديموقراطية.
نموذج (القيادة المؤقتة) و(القيادة المشروطة) كما تقول الكاتبة بسمة الحسيني قد يكون هو النموذج الذي يجب دراسته والتفكير فيه بجدية لأنه قد يكمل الجزء الناقص من عملية بناء البديل الذي نطمح فيه.
كيف نبدأ وكيف نبشر بالفكرة وننقلها لحيز التطبيق العملي؟ الحوار وتقريب وجهات النظر هو الخطوة الأولى ومهما كانت معوقاتها فلا بد من القيام بها، قد تختلف الوسائل وترتيب الأولويات لكن هذا هو واجب الوقت الحالي، فمن يبادر ويبدأ؟