في سبتمبر 2014، زار خالدُ مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الرئيسَ التونسي منصف المرزوقي، وخرج الأخير في خطابه ضمن حملته الانتخابية ليقول: "أتشرف باستقبال خالد مشعل وبحماس وبالمقاومة في غزة، إن شاء الله لا يُلفقون لي تهمة رعاية الإرهاب والتعامل مع حماس".
بالرغم من أنها كانت إشارة من المرزوقي إلى التهم التي وُجّهت إلى الرئيس المصري محمد مرسي بالتخابر مع حماس، فإن الرجل قد اختصر في تلك الجملة، الكلام عن أداة قذرة تستخدم ضد الشرفاء كورقة ضغط، وعقاب لهم -في الوقت نفسه- على الحيدة عن المسار الذي ترسمه قوى الشر، إنها أداة فزاعة الإرهاب ورعايته.
لقد اختزل المجتمع الدولي مصطلح الإرهاب بمفهومه الواسع، وأصبح توصيفا للمسلمين حكومات وجماعات وشخصيات، فأصبح الجميع سوى أمة الإسلام في مأمن من تهمة رعاية الإرهاب.
واستفاد خصومنا من تلك الفزاعة، ولاحقوا بها كل من يخرج عن تبعيتهم أو يسبح عكس تيارهم، والغرض هو توفير المناخ اللازم لمعاقبة دول وكيانات وشخصيات بعينها، تشبه إلى حد كبير أغراض الحرب الباردة، والتي قال عنها تشومسكي في كتابه "النظام العالمي الجديد والقديم":
"لقد كان للحرب الباردة فائدة أساسية للدولة (يعني أمريكا) ولمنظري المبادئ العقائدية التي تحكم الدولة الأمريكية، بما وفرته هذه الحرب من أنساق طقسية لتقديم المبررات لارتكاب الظلم ونشر الرعب".
أرادوا وضع الدول والحكومات بين خيارين، إما التعامل مع كل الكيانات الإسلامية على أنها جماعات إرهابية بلا تمييز بين تيار وآخر، أو التعرض لتهمة رعاية الإرهاب.. إما السير كالقطيع وراء الإملاءات الخارجية، أو رشق هذه الدول بأنها حاضنة للإرهاب.
وفي الوقت الذي يلتف فيه العديد من شرفاء الأمة حول التقارب السعودي
القطري التركي الذي يصل إلى حد التحالف، تبزغ تهمة رعاية الإرهاب لكي تُرمى بها هذه الدول.
وليس هذا الأمر مثيرا للدهشة إذا علمنا أن هذه الدول الثلاث قد اتحدت رؤاها في كثير من الملفات الساخنة في المنطقة بأسرها.
المد الإيراني، والانقلاب الحوثي في اليمن، ورحيل الأسد كحل أساس للقضية السورية، ورفْض التدخل الروسي، واستبعاد الرضا الأمريكي من صدارة قائمة الاعتبارات في السياسة الخارجية، كلها أمور قد اشتركت فيها تلك الدول، التي تتنامى مظاهر تحالفها وتكاتفها يوما بعد آخر.
لقد اتكأ خصوم هذه الدول الثلاث على معطيات واهية واهنة في رشقها برعاية الإرهاب، ولكن منْ قال إنهم يحتاجون إلى حبكة درامية في هذا الشأن؟ فهناك من أمتنا من هم جاهزون للسمع والطاعة، وترديد أرجوزة السادة في البيت الأبيض أو الكريملين أو في "قُم".
وكيف يحتاجونها والشقيقات يضربن المزاهر لهذه التهم، دون أدنى اعتبار لإسلام أو لعروبة أو لأدب الجيرة، ففاقَهُم دريد بن الصمة أدبا حين قال بنعرته الجاهلية:
مَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ ... غويْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أرشُدِ
هذا التحالف الثلاثي أعتبره –كحال الكثيرين من أبناء الأمة- نواة لتحالف الشرفاء يغير من الخارطة السياسية في المنطقة بأسرها، ويحررها من أسر التبعية للشرق والغرب، ويجنبها السقوط في براثن المشاريع والأطماع التوسعية.
قولوا حالمة، قولوا واهمة، قولوا كاتبة وردية كما سماني البعض، لكنها قناعاتي التي لا يلزمني تقديم حيثياتها في كل مرة.
ومن أجل تلك القناعات آثرت أن أتناول في مقالاتي على هذا الموقع، ما بنى عليه الخصوم تهمة رعاية الإرهاب التي يرشقون بها السعودية وقطر وتركيا.
وكالعادة، لا أستهدف بها النخب وأصحاب الأبراج العاجية، إنما أريد بها جمهوري المفضل من البسطاء الذين أنتمي إليهم وأُحبّهم..
وددتُ لو أن لي قلما رشيقا بليغا يحاكي قلم محمود شاكر في كتابه "أباطيل وأسمار"، فلئن كان الهدف واحدا في دفع الأباطيل، لكن البوْن في روائع البيان شاسعا، وهآنذا أقتبس من صفحته الأولى بيتين لشيخ المعرّة تناسب مقام الرد على التهم الواهية:
هل صحّ قولٌ من الحاكي، فنقبَلَهُ ... أمْ كلُّ ذاكَ أباطيلٌ وأسمار؟
أمّا العقولُ، فآلتْ أنّه كذِبٌ ... والعقلُ غَرْسٌ، له، بالصدقِ، أثمار
وأول ما أتجاذب أطراف الحديث عنه مع قارئي، تلك التهمة التي وُجّهت إلى قطر برعاية الإرهاب، استنادا إلى افتتاح مكتب لحركة طالبان الأفغانية في الدوحة عام 2013، والتوسط بينها وبين الأمريكان لإطلاق سراح جندي أمريكي مقابل خمسة من عناصر الحركة.
ابتداءً، أثيرت هذه القضية في تقرير أمريكي العام الفائت يتهم قطر بدعم الإرهاب بناء على افتتاح ذلك المكتب لطالبان في الدوحة للقيام بالوساطة بين الحركة وبين الحكومة الأفغانية، مع أن الخطوة قد تمت بمباركة أمريكية، حيث أشاد أوباما بهذه الخطوة ووصفها بالمهمة وقال حينذاك: "سنرى الأفغان لاحقا يتحدثون إلى بعضهم بعضا من أجل وقف العنف".
دولة قطر تتفرد بإقامة علاقات هادئة متزنة مع الجماعات الإسلامية، ولديها انفتاح على التيار الإسلامي المعتدل، تتعرض في كثير من الأحيان للخلل في تفسيرها من قِبل الكثيرين، فهي لا ترى أن هذه القوى المعتدلة هي العدو، ولا ترى ضرورة في الوقوف ضد تلك الجماعات، بل تستفيد من تلك العلاقة لدفع عجلة السلام.
جاء في تقرير لمركز الجزيرة للدراسات بعنوان قطر بعيون أجنبية: "لقد أغفلت الخطابات العربية والإسلامية إدراك القيادة القطرية بأن استثمارها بحُسن نية بالانفتاح النسبي على القوى الإسلامية المعتدلة، باتجاه تقارب مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يعادل في الحقيقة استثمارا في صناعة السلام، أو في الانفراج في العلاقات بين الشرق والغرب، أو بين الإسلام وغيره".
لقد انطلقت قطر في استضافة مكتب لطالبان للوساطة بينها وبين الحكومة الأفغانية، من كونها تتبنى سياسة الباب المفتوح، التي جعلت الدبلوماسية القطرية منذ التسعينات تركز على بناء علاقات والتوسط في حلّ النزاعات، تستفيد منها قطر والمجتمع الدولي معا.
وهذا ما قرره وزير الخارجية القطري السابق وزير الدفاع الحالي (د. خالد العطية) ، على موقع سي إن إن، حيث قال: " قطر لا تطالب بأن تكون لاعباً رئيساً على الساحة الدولية، لكنها ومنذ بداية منتصف التسعينات تبنت حكومتها سياسة الباب المفتوح التي تركز على بناء علاقات، والتوسط في حل النزاعات، وهو ما استفادت منه قطر وكذلك المجتمع الدولي، سياسة الباب المفتوح هذه سمحت لدولة قطر بأن تعمل كوسيط في المحادثات، وفي التعاون والنهوض بالسلام".
فما الذي يمنع أن يكون لحركة تُعدُّ لاعبا أساسا على المسرح الأفغاني وسيطرت على معظم أنحاء البلاد في فترة من الفترات، ما الذي يمنع أن يكون لها مكتبا يمثلها في قطر أو غيرها؟
بعض الكُتّاب العرب حاول الاصطياد في الماء العكر، وتساءل في خبث هل سيكون هناك مكتب لداعش في الدوحة على غرار مكتب طالبان؟ في محاولة منه لتعضيد تهمة رعاية الإرهاب التي تتصاعد وتيرتها في هذه الآونة.
هناك حتما فروق بين الحالتين لا يجهلها إلا متجاهل مُتعمّد، فطالبان كما قلنا لاعب بارز على أرض أفغانستان وبرزت على السطح كنتاجٍ لتناحر الفصائل الأفغانية بعد طرد الروس، بل وتُعتبر قوة كبيرة تفرض نفسها على مائدة المفاوضات، وفي الوقت نفسه رغم أنها مصنفة كمنظمة إرهابية لدى أمريكا، إلا أنها جماعة محلية لا يتجاوز نشاطها الحدود الأفغانية، فليست تنظيما عالميا على غرار القاعدة.
فهل تستوي طالبان وتنظيم داعش الذي يقوم بالعمليات الإرهابية في عدة دول إسلامية وعربية وأجنبية؟ هل من الممكن أن تستضيف قطر مكتبا لداعش وهي جزء من التحالف الذي يواجهه؟ أمور لا تستحق النقاش لكنها مما تناوله بعض الكتاب العرب فأحببت الإشارة إليها.
لقد كان من ثمار هذا التلاقي بين قطر وحركة طالبان، عقد صفقة بوساطة قطرية، تم بموجبها الإفراج عن الرقيب في الجيش الأمريكي (باو برغدال) المعتقل لدى طالبان، مقابل الإفراج عن خمسة من عناصر الحركة كانوا معتقلين في جوانتانامو، وكان من أحد بنود الصفقة بين طالبان وأمريكا أن تظل العناصر الخمسة المفرج عنهم في قطر تحت رعاية ورقابة قطرية لمدة عام.
فهل هذه الدبلوماسية التي تحل الأزمات الدولية تستحق أن تُرمى باحتضان ورعاية الإرهاب؟
ولم تكن هذه هي الصورة الوحيدة للوساطة القطرية، فهو مسار دبلوماسي وفق استراتيجية قطرية، أثمرت العديد من الوساطات في الأزمات الدولية.
منها الوساطة القطرية بين جيبوتي وإريتريا، والتوسط لإنهاء أزمة راهبات معلولا، والإفراج عن الصحافي الأمريكي (بيتر ثيو كيرتس) الذي كان مختطفا في سوريا، وإطلاق سراح 45 جنديا من (فيجي) تابعين لقوات حفظ السلام في سوريا أيضا.
إن هذه الدبلوماسية التي تعتمد على لغة الحوار وتعزيز السلام، تستحق الإشادة واعتبارها نموذجا يحتذى به، لا أن توصم الدولة القطرية برعاية الإرهاب.
الإرهاب تفريق لا تجميع، هدم لا بناء، هو التغليب المطلق لصوت الرصاص على صوت العقل والحكمة.
إن اتهام قطر برعاية الإرهاب في فترة أوجدت لنفسها مكانا في المنطقة بأسرها، وفي ظل تنامي نجاحاتها في سياستها الخارجية، وفي وقت تقف فيه مواقف مُشرفة تجاه أزمات الأمة، لا نستطيع إلا أن نصفه بأنه محض أباطيل وأسمار ليل..