منذ انتهاء ولاية رئيس الجمهورية اللبنانية السابق ميشال سليمان في 25 مايو أيار 2014 وبدء الفراغ الرئاسي الذي سجل مجلس النواب جلسة فاشلة جديدة لإنهائه حملت الرقم سبعة وثلاثين، وبيروت تعاني تصحُّرا دبلوماسيا زاد من حدته افتقار وزير الخارجية جبران باسيل للخبرة والحنكة المطلوبتَين، وقد أضعف الهدوءُ المضطرد لجبهته الجنوبية مع "إسرائيل" من حضوره وأهميته الدوليّين، فبات مجرّد منتظِر لمآلات الحرب في سوريا ومنظِّر لها، حيث انطلقت مؤخرا موجة رهانات جديدة على تبدل الأوضاع بعد الانسحاب الروسي. أما دور حزب الله في الحدث الإقليمي فهو يُحسَب لجهة نفوذ إيران الكامل حصرا وتمددِها في المنطقة العربية، وليس للواقع اللبناني بأي حال من الأحوال.
لقد تحول لبنان إلى دولة فاشلة بفضل قادته الذين تبرّأوا من أي حول لهم وقوة خارج مراكز القرار الإقليمي، وأثبتوا عجزهم عن إنتاج دولة ما بعد الوصاية السورية التي كانت ترتب كل أمور البلد، وصولا إلى رعاية صفقات تلزيم جمع النفايات. ولم يعد لبنان ذلك البلد الذي تفوق أهميتُه حجمَه بأضعاف، بل تقوقع إلى دور هامشي يقتصر على فتح بابه للنازحين السوريين دون القدرة على استيعابهم اقتصاديا واجتماعيا وتربويا وخدماتيا، وهو الغارق أصلا في أزماته.
على مقاس هذا الواقع الجديد، نفضت بيروت أمس الغبار عن صالونات الشرف فيها واستقبلت الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون يرافقه رئيسا البنكَين الدولي والإسلامي في زيارة استُهلت بإشادة أممية "بالكرم النادر الذي أظهره لبنان في استضافة النازحين"، علما أنه كرمٌ باتجاه واحد حتى الآن؛ لأن المجتمع الدولي لم يُقدم بعد المساعدات الكافية لتمكين لبنان من الاستمرار في مهمته الجديدة، رغم أنه البلد الأول من حيث استيعاب النازحين بالقياس مع جغرافيته وديمغرافيته. إلا أن وجود رأسَي البيتَين الماليَّين الدولي والإسلامي جيم كيم وأحمد محمد، أعطى جرعة أمل تلقفها رئيس الحكومة تمام سلام بالثناء المسبق على اهتمامهما، لا سيما وأنه " كان هناك إقرار من الجهتين بأن وجود النازحين السوريين أظهر عوائق لا يمكن للبنان تحملها بمفرده"، وقد وعد رئيس البنك الدولي المسؤولين اللبنانيين في هذه الزيارة بتقديم مساعدات وقروض مليونية، لكنه ربطها بأمرَين أساسيين، انتخاب رئيس للجمهورية وانعقاد مجلس النواب.
في مقابل التفاؤل بمستقبل العون المالي لم يفوت بان كي مون الفرصة دون شحن اللبنانيين بجرعة "أوفر دوز" من القلق بشأن فراغ مؤسساتهم الدستورية ولجهة شوكة الإرهاب، لكنه لم يقدم أية إشارات أو حتى مقترحات، فهو يدرك في الموضوع الأول أن ليس على أجندات القوى الدولية في المدى القريب مادة اسمها لبنان، كذلك تحدث في الموضوع الثاني عن الإرهاب بعبارات عامة مجتنبا التخصيص والتفصيل في بلد، تختلف فيه لوائح الإرهاب بين حزب وآخر، ويُصنّفُ أحد أحزابه (حزب الله) من قبل المجموعة العربية بأنه تنظيم إرهابي، في انتقال رسمي للصراع العربي الإيراني إلى الساحة اللبنانية.
ليست الزيارة الأممية فاشلة، بل يمكنها أن تنجح في تسريع الخطى باتجاه منح الحكومة اللبنانية مباشرة قروضَ مشاريع وأموالا لرعاية النازحين السوريين، تحت وطأة تفجيرات بروكسيل الأخيرة التي فتحت بابا لم يغلق بعد للنقاش في الأروقة الأوروبية، حول لزوم إعادة النازحين إلى دول الجوار السوري.
لكن الكرة الآن في ملعب اللبنانيين الموالين لإيران أكثر من غيرهم، إذ إن المساعدات لن تأتي دون انتخاب رئاسي وانعقاد برلماني، وهما حدثان تقبض عليهما طهران دون شك أو شراكة مع أية عاصمة أخرى، فقطبا 14 آذار الموالية للسعودية (بنسب متفاوتة بين مكوناتها) سعد الحريري وسمير جعجع رشحا قطبَي 8 آذار الموالية لإيران (بنسب متفاوتة أيضا بين مكوناتها) سليمان فرنجية وميشال عون، ومع ذلك يقاطع النواب "أصدقاء" إيران جلسات الاستحقاق الرئاسي، علما أن نتيجة الانتخاب لن تكون إلّا لجماعة محور الممانعة، والمثل اللبناني يقول (بالرواية الإسلامية) الحسن أخو الحسين، و(بالرواية المسيحية) حَنا أخو حنَين.