أما الدراوي صاحب القميص فهو الصحفي والباحث إبراهيم الدراوي، وأما هشام صاحب النظارة فهو الصحفي والباحث هشام جعفر، وكلاهما حبيسان الآن في سجون مصر( أولهما في سجن ليمان طرة، والثاني في سجن العقرب). تهمتاهما متشابهتان وهي التخابر أو تلقي تمويلات دولية، بينما يدفعان في حقيقة الأمر ضريبة مواقفهما السياسية والمهنية.
فقد اختار الأول أن يتخصص في القضية الفلسطينية وأنشأ لها مركزا بحثيا، والتقى من أجلها العديد من القيادات الفلسطينية من فصائل متنوعة، وكانت عاقبته أن تم اتهامه بالتخابر مع فصيل منها (حماس) لتحكم عليه إحدى المحاكم الهزلية بالسجن المؤبد، بينما اختار الثاني (هشام) التخصص البحثي في مجال التنمية المجتمعية فأنشأ مؤسسة مدى للتنمية الإعلامية والتي تهتم بالإعلام التنموي، ودوره في إحداث التحول الاجتماعي والتغيير والتطوير والتحديث في المجتمع بشكل عام، وقد كانت المؤسسة شريكة للعديد من المؤسسات الحكومية ومع ذلك كانت عاقبة رئيس مجلس أمنائها الحبس والحرمان من القراءة ناهيك عن الحرمان من الحقوق الأدمية الأخرى التي أقرتها لوائح السجون للسجناء.
مناسبة الحديث عنهما أن الأول( الدرواي) تعرض خلال ترحيله لأحد السجون قبل أيام لاعتداء من أحد ضباط الشرطة وبعض المساعدين تسبب في كسر سنه وإصابته بسجحات وكدمات، وسالت منه الدماء التي لطخت قميصه، وقد حملت زوجته هذا القميص مع غيره من الملابس لتنظيفها، وقد نشرت صورة للقميص ملطخا بالدماء، لتأكيد وقوع جريمة الاعتداء عليه وهو أسير في يد رجال الشرطة، لا يقوى على رد العدوان، ليجتمع عليه بذلك ظلمان -حبسه وإصابته-، والغريب أن نقيب الصحفيين حين عرضت عليه زوجة الدراوي القميص ملطخا بالدماء ادعى أن القميص ملطخ بالأتربة وليس الدماء، رغم أن الجميع شاهد تلك الدماء على القميص، في محاولة من النقيب لتخفيف روع تلك الجريمة وبالتالي تخفيف الضغوط التي يتوقعها من الصحفيين بسبب ذلك.
وأما الثاني وهو هشام جعفر الصحفي والباحث المعروف فقد تعرض لمعاملة غير أدمية في محبسه أيضا، وهو يعاني من مشكلة واضحة في النظر، ولا يستطيع القراءة إلا بنظارة طبية خاصة جدا، وقد رفضت إدارة السجن إدخال نظارته عقب القبض عليه مباشرة، وحين أصرت زوجته على إدخال النظارة في إحدى زيارتها التالية قام رجال السجن بخدش النظارة بحيث لم تعد تصلح للرؤية والقراءة قبل تسليمها له، وبالتالي أصبح هشام جعفر الباحث الذي لا يستطيع أن يمضي ساعة واحدة دون قراءة عاجزا عن القراءة بل محروما منها بفعل فاعل كعقوبة إضافية له بعد الحبس والحرمان من أبسط الحقوق الأخرى.
معاناة الدراوي وهشام هي جزء من معانة عامة لكل السجناء في السجون المصرية وبالأخص في سجن العقرب الذي أصبح يتفوق في سمعته السيئة على سجون الباستيل وأبو غريب وجوانتانامو، حيث لفظ العديد من السجناء أنفاسهم الأخيرة فيه نتيجة التعذيب البشع أو الحرمان من الأدوية والرعاية الطبية الضرورية، ومنهم فريد إسماعيل النائب البرلماني وعضو الهيئة العليا لحزب الحرية والعدالة، وعصام دربالة رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية، والقياديين السابقين بجماعة الجهاد الإسلامي مرجان سالم ونبيل المغربي، والسجين عماد حسن، وجميعهم توفوا في الفترة ما بين أيار/ مايو إلى أيلول/ سبتمبر الماضيين.
التعذيب أشكال وألوان في سجن العقرب الذي يضم كبار القادة السياسيين، فمن ضرب بالعصي والهراوات، إلى صعق بالكهرباء، إلى تعليق للسجناء لساعات طويلة، وحتى الاغتصاب الكامل أو التحرش الجنسي، ووضع العصي في دبر المعتقلين كنوع من الإذلال والقهر المعنوي، وهو ما دفع العديد من السجناء لبدء إضراب مفتوح عن الطعام لوقف تلك الجرائم بحقهم.
في ظل هكذا اعتداءات على السجناء يصبح الحديث عن الإهمال الطبي والمنع من التريض، والبقاء في الزنازين الانفرادية أوقاتا طويلة من نافلة الكلام ، رغم أن كل هذه الأشكال المخالفة لأبسط حقوق السجناء التي تتضمنها لوائح السجون تقود إلى الموت البطيء وأحيانا السريع.
أما عذابات الأسر خلال الزيارة فحدث ولا حرج، فمن يحلم من هذه الأسر بمجرد رؤية سجين لمدة لا تتجاوز 5 دقائق عليه أن يقضي الليل ساهرا أمام بوابات السجن في البرد القارس مصحوبا بأنين الأطفال حتى يحجز دوره فيمن سيسمح لهم بالزيارة في اليوم التالي، وفي الأغلب تعود معظم الأسر دون التمكن من الزيارة التي تقتصر على عدد محدود.
حين تحدث كل تلك الجرائم بحق سجناء عزل، لمجرد مناداتهم بالحرية والديمقراطية والعدالة والكرامة، وحين يقتل الرجال وتغتصب النساء، وحين تتعرض آلاف الأسر للإذلال، وحين يشترك مجلس حقوق الإنسان في تضليل الرأي العام بإخفاء مظاهر التعذيب والقمع، وحين تخفت أصوات المنظمات الحقوقية الأخرى التي بنت شرعية وجودها على ذودها عن الحقوق والحريات، وحين يستمرئ الجلادون جرائمهم فيتمادون فيها، فلننتظر خرابا كبيرا- تظهر الآن مؤشراته- وكما قال ابن خلدون في مقدمته "اعلم أنَّ هذهِ الحِكمةَ المَقصودةَ للشَّارعِ في تحريمِ الظُّلْمِ، هُوَ ما يَنْشَأُ عنه من فَسَادِ العُمْرَانِ وخَرَابِهِ، وذلكَ مُؤْذِنٌ بانقطاعِ النَّوعِ البّشَرِيِّ، وهيَ الحِكمةُ العامَّةُ المراعِيَةُ للشَّرْعِ في جَميعِ مَقاصِدِهِ الضَّرُورِيَّةِ الخَمْسَةِ مِنْ حِفْظِ الدِّينِ والنَّفْسِ والعَقْلِ والنَّسْلِ والمَالِ.