المحكمة الدستورية في
تركيا قررت قبل أيام أن رئيس تحرير صحيفة "جمهوريت"، جان دوندار، ورئيس مكتبها في أنقرة أردم غول، قد تعرضا لانتهاك الحقوق. وبعد صدور القرار تم الإفراج عن الصحفيين اللذين اعتقلا قبل نحو ثلاثة أشهر بسبب نشرهما صورا ومقاطع فيديو تظهر فيها شاحنات تابعة لجهاز الاستخبارات التركية تحمل أسلحة إلى الثوار في
سوريا.
هذا القرار أعاد النقاش حول نفوذ الكيان الموازي في القضاء إلى الساحتين السياسية والإعلامية من جديد، وسط تقارير تشير إلى أصابع جماعة كولن في صدوره، في محاولة للنيل من رئيس الجمهورية رجب طيب
أردوغان وحكومة حزب العدالة والتنمية.
دعونا نتذكر أولا ما الذي حدث بالضبط ولماذا اعتقل الصحفيان؟ الاستخبارات التركية كانت ترسل إلى بعض فصائل الثورة السورية المعتدلة شاحنات عدة محملة بالمساعدات العسكرية، وقامت خلايا الكيان الموازي في الجيش والقضاء والإعلام بإيقاف هذه الشاحنات وتصوير ما فيها، لتقول للعالم إن الحكومة التركية تدعم المنظمات الإرهابية. وقام الصحفيان دوندار وغول بنشر مقاطع فيديو وصور في صحيفة "جمهوريت" الموالية للنظام السوري، تم التقاطها أثناء عملية إيقاف الشاحنات وتسريبها من قبل عناصر الكيان الموازي.
أجهزة الاستخبارات في جميع دول العالم تعمل للحفاظ على أمن البلد ومصالحها الوطنية، وتقوم بعمليات سرية يعد كشفها تجسسا لصالح الأعداء، ويعاقب من يفعل ذلك بأشد العقوبات دون النظر إلى هويته أو منصبه، إلا أن الأمر في تركيا يختلف، وتمنح المحكمة الدستورية حصانة للمتهم بالتجسس وكشف أسرار الدولة.
وسائل الإعلام التركية تتحدث عن تنصت الكيان الموازي على مكالمات الصحفي جان دوندار وتصويره مع عشيقته الإيرانية وابتزازه بتلك الأشرطة ليقنعه على العمل رئيسا للتحرير في صحيفة "جمهوريت" لصالح الكيان الموازي، بالإضافة إلى العلاقة المشبوهة بين شراء أشخاص مرتبطين بالكيان الموازي بيت دوندار بسعر خمسة أضعاف ما يستحقه ونشر الصحفي تلك الصور والتقارير المتعلقة بعملية إيقاف الشاحنات في صحيفته، واعتقال بعض هؤلاء الأشخاص على خلفية هذه القضية.
المحكمة الدستورية اتخذت قرارها بناء على الشكوى التي تقدم بها الصحفيان، إلا أن الخبراء يؤكدون أنها تجاوزت صلاحياتها بهذا القرار، لأن الصحفيين لم تتم محاكمتهما بعد ولم يتم الحكم عليهما، ما يعني أن المحكمة الدستورية تصرفت كمحكمة بداية وليست محكمة دستورية عليا، كما أن القرار لا يجوز إعلانه قبل كتابة تبرير القرار، علما بأن أحد شروط النظر في الشكوى التي يتقدم بها الأشخاص إلى المحكمة الدستورية أن يستنفد المتقدم جميع الطرق القانونية لإزالة الانتهاك، ولكن المحكمة الدستورية في قرارها المتعلق بشكوى دوندار وغول تجاهلت هذا الشرط وقامت على عجالة بالبت في القضية خلال 40 يوما فقط، على الرغم من أن هناك عشرات القضايا لدى المحكمة تنتظر النظر فيها وأنها لم تنظر حتى الآن في قضية تقدم بها رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بصفته المواطن قبل سنتين.
القرار تم اتخاذه في المحكمة الدستورية بأصوات 12 عضوا في مقابل رفض ثلاثة أعضاء وغياب عضوين.
واللافت في الأمر أن تسعة من هؤلاء الأعضاء الذين صوتوا لصالح القرار ممن عيَّنهم رئيس الجمهورية السابق عبد الله غول. وكان أحمد سيفير، كبير مستشاري غول، قبل ثلاثة أيام من صدور قرار المحكمة الدستورية بعث رسالة إلى الصحفي جان دوندار قال فيها إن "الذين اعتقلوك سينهزمون"، الأمر الذي أثار هذا السؤال: "هل كان سيفين يعلم قرار المحكمة الدستورية قبل صدوره؟".
أردوغان في تعليقه على قرار المحكمة الدستورية في حق الصحفيين، عبَّر عن استيائه من القرار، قائلا إنه لا يقبله ولا يعترف به ولا يحترمه، إلا أن هذه التصريحات لا تتعدى كونها تعبيرا عن غضب على وقوف أعضاء المحكمة الدستورية إلى جانب الاعتداء على سيادة تركيا وجهاز استخباراتها.
ومما لا شك فيه أن هذا القرار جولة جديدة في الحرب الدائرة بين الرئيس المنتخب الذي يمثل الإرادة الشعبية والكيان الموازي الذي يسعى لفرض وصايته على الشعب، ومؤشر لما سنشهده في المستقبل القريب من تصعيد ضد أردوغان ومشروع الدستور الجديد.