الإيرانيون ينتخبون بعشرات الملايين، حقيقة اجتاحت وسائل الإعلام والوعي العالمي في الأيام القليلة الماضية، وفي وقت كان فيه البعض "الأصلع" يتفاخر بشعر جارته كما يقال، أو بما يسمّيه "الديمقراطية الإيرانية"، نسي كثيرون أنّ إيران هذه حرمت الكثير من الدول العربية مما تحلّله لنفسها اليوم.
لبنان يبقى دوما المثال الأول والأهم للتجربة الإيرانية في هذا المجال؛ حيث لم تكتف بتعطيل الانتخابات على الصعيد البرلماني والرئاسي هناك، بل قامت عمليا بتدمير كل هياكل الدولة، وكذلك فعلت في العراق؛ فعندما انتخب العراقيون إياد علّاوي أبت إلا أن تنصّب مليشياتها الطائفيّة لتحكم العراق بالاتفاق مع الولايات المتّحدة الأمريكية (الشيطان الأكبر سابقا). الشيء نفسه ينطبق على ما جرى في اليمن، حيث قطعت مليشياتها الطريق على المسار الدستوري في البلاد وقامت باحتلال البلد بقوّة السلاح، والمفارقة أنّ أدوات إيران في العالم العربي لم تقدّم حيثما حكمت أي خير للبلاد والعباد، وإنما قامت بتدمير البلدان التي تحكمها سياسيا واقتصاديا وأمنيا واجتماعيا.
اليوم يراهن البعض على تحوّل جذري داخل إيران، فيما ينزل البعض الآخر بمستوى طموحاته إلى المراهنة على تغيّر في السياسات الإيرانية الإقليمية. يستند هؤلاء في تطلعاتهم إلى التأثيرات التي قد يتركها الاتفاق النووي الإيراني على الوضع السياسي داخل إيران وكذلك الانفتاح الإيراني المصاحب له على الوضع الاجتماعي داخل البلاد، على أمل أن يؤدي ذلك إلى التغيير المنشود.
مثل هذا التصوّر مفهوم، إذ لطالما راهن كثيرون على أنّ انفتاح الصين على العالم ودمجها اقتصاديا في بنية النظام العالمي، سيؤدي إلى تغيير في بنية النظام الصيني، لكن هذه الطموحات لم تتحقق ويلهث العالم الآن للحد من تداعيات مساعدته الصين على تحقيق صعودها العالمي. آخرون راهنوا يوما ما على أنّ تقديم التنازلات لروسيا سيؤدي إلى جذبها وسيفتح آفاقا أوسع للتفاهم بينها وبين الغرب، وسيعطّل عدوانيتها ورغبتها الجيوبوليتيكية في التوسّع في محيطها، لكن مرة أخرى أخطأ هؤلاء، وجرى أن دفعت دول ثمن هذا الخطأ الفادح، وما تزال أخرى تدفع الثمن، والأمثلة أكثر من أن تعد أو تحصى.
هذه الأمور مفهومة، لكن من غير المفهوم أن يقوم العالم بخداع نفسه كما يحصل الآن بخصوص الانتخابات الإيرانيّة. سيل من المقالات والتقارير الإخباريّة العالمية تتحدّث عن فوز كاسح لمن تسمّيهم مرّة بالإصلاحيين، ومرة أخرى بأنصار الحكومة، وتارة بالمعتدلين، وطورا بالبراغماتيين! حتى كتابة هذا المقال لم تكن النتائج النهائية المتعلقة بالانتخابات (مجلس الشورى ومجلس الخبراء) قد أعلنت، لكن من الملاحظات التي أستطيع تسجيلها على ما تمّ نشره حتى الآن وعلى النتائج المتحققة، ما يلي:
1) الغالبية الساحقة من التقارير الإعلاميّة ركّزت على ما يجري في طهران فقط، صحيح أنّها العاصمة وأنّها مركز الثقل السكّاني والشبابي، لكن لا يمكن اختزال إيران بطهران، وعليه فإن نتائج طهران لا تعكس بالضرورة النتائج على كامل مساحة، إيران خاصّة أنّ الاختلاف بين تركيبة وخصوصيّة بعض المناطق الإيرانية كبير جدا؛ كالاختلاف بين طهران وقم على سبيل المثال. ويفهم من هذا التركيز على طهران محاولة لتضخيم الحالة التي يراد صنعها في مخيّلة من يطرحونها، وهي (الانتصار على المرشد وجماعته).
2) كل الأخبار دون استثناء ركّزت على ما سمّته الانتصار الساحق للإصلاحيين في النتائج المتعلقة بطهران، مبدية فرحها ومهلّلة بهذا الانتصار لـ "الإصلاحيين" على "المحافظين"، لكنّ هذا الطرح يحمل معه إشكاليتين لا يتم إطلاع العامة عليها عادة.
الأولى تتعلّق بتعريف الإصلاحيين، من هم هؤلاء الإصلاحيون الذين انتصروا؟ في هذه الانتخابات تنافست ثلاثة تيارات أساسيّة: التيار المحافظ ويضم الأصوليين، والتيار الإصلاحي ويضم إصلاحيين ومحافظين أقل تطرفا، قياسا بالمحافظين في التيار الأول وذلك تحت لائحة الأمل، وتيار الاعتدال الذي يتزعمه هاشمي رفسنجاني ويقال عنه التيار البراغماتي ويضم أيضا إصلاحيين ومحافظين.
إذا التيارات الثلاثة تضم محافظين، وعليه فالقول بأنّ الإصلاحيين في طهران انتصروا على المحافظين كلام غير دقيق، فضلا عن أنّ كثيرا ممّن هم في هذا التيار "الإصلاحي" لا يمكن اعتبارهم إصلاحيين بدءا من روحاني، وليس انتهاء بالكثير من المحافظين سريعي التقلّب بين اليمين والوسط أو اليسار والوسط.
الإشكالية الثانية أنّ هناك من يعتبر حقيقة أنّه ما كان للإصلاحيين أن يفوزوا لولا أنّهم لم يضموا إليهم المحافظين، وإذا ما صح هذا الافتراض، فهذا يعني أنّ هؤلاء المحافظين يمتلكون الثقل الحقيقي، وربما كان دخولهم هو لاستيعاب ولاحقا لاختطاف أصوات التيار الإصلاحي الحقيقي.
3) من الطرائف مثلا أنّ كاظم جلالي الذي -ترشّح كإصلاحي- على لائحة الأمل في طهران وفاز أيضا بمقعد، هو في حقيقة الأمر محافظ متطرّف. البعض يعترض على وصفه بالمتطرف، لكنّه كان قد طالب سابقا بإعدام كل من موسوي وكروبي، وأمثال جلالي اليوم يسمّون إصلاحيين، والبعض يفهم الإصلاح على أنّه اعتدال، وهذا خلط لا يستقيم بهذه الحالة.
4) مهما كانت النتيجة، فإن الشيء الذي لا تركز عليه التقارير ولا تذكره إلى الآن، هو أنّ الإصلاحيين أو المعتدلين أو البراغماتيين أو مناصري الحكومة (سمّهم ما شئت- الإعلام نفسه داخل في معمعة مصطلحات لا تعكس الجوهر)، لن يحصلوا على أغلبية المقاعد في جميع الأحوال، قد يحصلون على عدد أكبر من المقاعد مقارنة بالمجلس السابق، قد ترتفع نسبة تمثيلهم في مجلس الخبراء، لكن لن يحصلوا على الأغلبيّة، وحده العكس قد يكون مفاجأة حقيقية تستحق الحديث عن إمكانية حصول تغييرات، وعندها يمكن مناقشة شكلها أو حجمها، وما دون ذلك هو من المألوف المكرر على مدى أكثر من 35 عاما.
عموما، النتائج النهائية ستعطي بطبيعة الحال فكرة أدق عن الوضع، وبعدها يمكن النظر إلى المتغيرات، ما يهمنا هو التأثير على السياسة الخارجية وعلى دعم الإرهاب وعلى التطرف والتشدد والطائفية في المنطقة، لكن المشكلة أنّ كل هذه الأمور في حقيقة الأمر لا تتعلق بشكل أساسي ببرلمان إيران أو رئاسة جمهوريته أو حكومته، بقدر ما تتعلق بالمرشد والحرس الثوري بالدرجة الأولى.
1
شارك
التعليقات (1)
امية
الإثنين، 29-02-201611:18 ص
تكلم عن تركيا.كيف العداوة بين ابناء شعبها وكيف نسمع عن انفجارات ولا توجد دولة جارة الا ومعها مشكلة..انقلاب جبري في قطر واحتلال علني للبحرين وانعزال لعمان وتردد كويتي .وحرب على دولة جارة لن تنتهي بنصر بل باتفاق لا ربح فية..اترك اسلوب العربان .تكلم باسلوب العرب..