في رحلة البحث التاريخية المضنية عن هوية سياسية كردية تتأسس على جغرافيا واقعية تستكمل مشروع الأمة الكردية المتخيلة، وفرت المسألة السورية فضاء واسعا لتحقيق الحلم الكردي بكيان سياسي مستقل، وعلى الرغم من التحديات والصعوبات والتعقيدات المحلية والإقليمية والدولية إلا أن الظروف الموضوعية الراهنة عملت على تسهيل إمكانية تحقق المشروع الكردي مع إرهاصات تفكك منظومة "سايكس ــ بيكو"، فقد تمكن الأكراد من نسج علاقات مع القوى الدولية الكبرى وتقديم أنفسهم كشركاء موثوقين في "الحرب على الإرهاب"، وبهذا يتحول أكراد سوريا من حلفاء موضوعيين إلى أصدقاء دائمين.
رحلة الكرد ومغامرتهم الكبرى لتحقيق الكيان الكردي استندت إلى قراءة سياسية براغماتية فجة للصراع والنزاع الإقليمي الدولي في سوريا، فقد بدا الكرد كتلاميذ نجباء للفيلسوف السياسي والقانوني الألماني كارل شميت، والذي تقوم نظريته السياسية على أساس التمييز بين الصديق والعدو، وهو التمييز الذي يعتبره العنصر الحاسم في تحديد ماهية السياسي، والمعبّر عن الدرجة القصوى في الانشقاق الذي تكون أسبابه أو رهاناته متعددة المستويات، دينية واقتصادية واجتماعية أو إيديولوجية، حيث تتعاظم لتبلغ درجة من الحدة والكثافة تؤدي، بالضرورة، إلى الفصل بين الصديق والعدو، أي حدة صراعية قوية جدا تقود إلى أفق القوة ورهانها وتطرح الإمكانية الوحيدة، كما هي مجسدة في الحرب.
في سياق تحديد العدو والصديق، بات الجميع صديقا للكرد أما العدو فهو تركيا وحدها، وعلى الرغم من محاولة تركيا خطب ود وصداقة الأكراد إلا أن ذلك لم ينجح بعد أن حسم الأكراد خياراتهم السياسية باتجاه الأطراف التي تتفهم حلم "روج آفا"، وهي ترجمة حرفية لكلمة غرب كردستان، وتطلق على الجزء الكردستاني الواقع في سوريا، حيث عملت الفصائل الكردية على نقل المشروع من حيز الإمكان إلى الواقع بهدوء بعد معركة عين العرب "كوباني" التي برزت كنموذج ناجح لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية بالاعتماد على قوى محلية بإسناد قوات التحالف الدولي، الأمر الذي أغرى القوات الكردية المموهة ببعض عناصر الجيش الحر لتطهير المناطق الواقعة تحت سيطرته من المكونات الإثنية والعرقية الأخرى من خلال حملات التهجير لكل مكون غير كردي من العرب والتركمان والآشوريين وغيرهم، تحت ذريعة محاربة إرهاب تنظيم الدوله.
لم يعد المشروع الكردي في سوريا سرا، فالخريطة المبدئية لـ"روج آفا" أصبحت قيد العلن، فعندما افتتحت في العاصمة الروسية موسكو أول ممثلية لـ "الإدارة الذاتية"، التي يتزعمها حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، بقيادة صالح مسلم، في 10 شباط/ فبراير، صرح ممثل الحكومة الروسية خلال الافتتاح بأن "هذا الحدث يعتبر تاريخيًا للكرد"، حيث ستلعب الممثلية دورا مهما في الحل السياسي للكرد في المنطقة، متمنيًا أن تكون ممثلية "غرب كردستان" مجرد بداية لافتتاح ممثليات أخرى وفي دول أخرى، وقد ضمت الخارطة التي وضعت في ممثلية "الإدارة الذاتية"، معظم محافظة الحسكة والأجزاء الشمالية من محافظة الرقة، ومعظم المنطقة الشرقية والشمالية من محافظة حلب، وصولًا إلى الريف الشمالي والغربي في إدلب.
يبدو أن الأكراد على معرفة بطبيعة الدور المطلوب منهم القيام به وحدوده، لكنهم يدركون حاجة أطراف الصراع الدولي لهم، فالولايات المتحدة حسمت خياراتها بالتحالف مع من يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية حصرا، وعلى مدى خمس سنوات وجدوا ضالتهم بالأكراد، وروسيا تدرك بأن مهمة الحفاظ على نظام الأسد يتطلب تأمين الحدود الشمالية لقطع إمدادات المعارضة السورية من تركيا، وهي مهمة يصعب تحقيقها بدون الأكراد، كخطوة أولية ضرورية قبل الانخراط في معركة حلب والأطباق على "جيش الفتح"، ومكوناته الأقوى جبهة النصرة وأحرار الشام، فاستعادة السيطرة على مدينة حلب ومحيطها تتطلب إغلاق الحدود التركية لوقف تلقي الثوار الدعم اللوجستي، ولا يمكن القيام بهذه المهمة بدون الأكراد الذين بات مشروعهم يقوم على ربط جيوبهم الحدودية الشرقية بين عفرين وكوباني ضمن أراض"روج آفا"، وبهذا بات واضحا أن "حزب الاتحاد الديمقراطي" يجمع في تحالفاته بين أمريكا وروسيا والأسد.
استثمر الأكراد جيدا في كافة الأطراف ودفعتهم إلى مواجهة قرارات صعبة، فخيارات الولايات المتحدة وحلفاؤها باتت تنحصر إما الحفاظ على الحظر المفروض على التوسع الكردي أو دعم مساعي "حزب الاتحاد الديمقراطي" لضم عفرين إلى كوباني، وروسيا وحلفاؤها انحصرت خياراتها وبات الأكراد الشريك الوحيد لتأمين سوريا لمفيدة، فالأهداف الروسية الأهم في سوريا تتمثل بالحفاظ على نظام بشار الأسد وتوسيع وجودها العسكري على ساحل البحر المتوسط، ويمكن تحقيق هذه الأهداف حتى لو لم تكن دمشق وحلفاؤها قادرون على استعادة الأراضي خارج معاقل العلويين.
تكشف مسارات الأكراد في تحديد منظومة الأصدقاء والأعداء عن كون تركيا تقع في خانة "العدو"، فعلى الرغم من مساعدة تركيا للأكراد في معركة كوباني، والتفاهمات مع حزب الاتحاد الديمقراطي بالالتزام بعدم التمدد إلى حدود تركيا، إلا أن تركيا تتعرض لهجمات كردية داخليا وخارجيا، حيث نفذت مجموعة تعرف بـ"صقور حرية كردستان" هجوما عبر تفجير سيارة مفخخة في 17 شباط/ فبراير الماضي، بوسط العاصمة التركية أنقرة أسفر عن مقتل 28 شخصا، بينهم 27 عسكريا، وإصابة 81 آخرين، وقد ظهرت "صقور حرية كردستان" عام 2004، عقب الانشقاق عن حزب العمال الكردستاني بعد أن أعلن وقف إطلاق النار من جانب واحد، وكان رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، قد اتهم وحدات "حماية الشعب" الكردية بالوقوف وراء التفجير، وبالرغم من نفي الحزب إلا أن هذه الحركات الكردية متضامنة في عدائها لتركيا وهي سلالات من حزب العمال الكردستاني.