مقالات مختارة

حين اهتزت الثقة في القضاء

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
أزمة العدالة في مصر أكبر بكثير مما نتصور، إذ لم يعد الأمر مقصورا على تراجع ثقة المصريين في القضاء أو العبث بالقانون، أو حتى التصريحات الصادمة لوزير العدل وتدخلات السياسة والأمن في الأحكام؛ ذلك أن تلك الممارسات أحدثت صدى محزنا في خارج مصر وليس في الداخل فحسب، وترتب على ذلك أن الدوائر الأجنبية ذات الصلة فقدت بدورها الثقة في القانون المصري وفي القضاء المصري أيضا. نبهني إلى ذلك بعض المحامين الدوليين الذين أخبروني بأن الصورة السلبية التي شاعت عن القضاء، دفعت الجهات الأجنبية التي لها أي نشاط في مصر، استثماري أو غيره، إلى النص في العقود التي تبرمها على "شرط التحكيم"، الذي يخرج أي نزاع ينشأ من ولاية القضاء والقانون في مصر.

وبمقتضى ذلك الشرط، فإن النزاع إذا ما وقع في أثناء ممارسة النشاط في مصر، فإنه لا يعرض على القضاء المحلي، وإنما تفصل فيه لجنة تحكيم يتفق على مواصفات أعضائها. وتستمع اللجنة إلى وجهة نظر الطرفين، ثم تصدر حكمها الملزم طبقا للقانون الساري في بلد الطرف الأجنبي. وفي بعض العقود فإن الطرف المصري لا يسمح له بحضور جلسة التحكيم، وإنما ينوب عنه محاميه فقط. ولأنه يكون الأضعف في هذه الحالة، فإنه يخسر القضية في أغلب الأحوال.

ليس الأمر على جسامته مقصورا على الغرامات المقدرة بالملايين التي أرهقت الخزينة المصرية جراء انهيار الثقة في القضاء، لأن ذلك الوضع يسيء كثيرا إلى سيادة الدولة والقضاء في مصر، ويكاد يعيدنا عمليا إلى زمن القضاء المختلط الذي كان مطبقا في القرن التاسع عشر، وبمقتضاه فإن المنازعات المدنية التي يكون الأجنبي طرفا فيها، كانت تعرض على تلك المحاكم التي كان قضاتها أجانب والقانون الذي تطبقه أجنبيا (أنشئت المحاكم في عهد الخديوي إسماعيل عام 1870 وألغيت عام 1949، الذي استردت مصر فيه سيادتها القضائية على أراضيها).

الوضع الراهن يعيد إلى الأذهان مرحلة السيادة المنقوصة وينذر بما هو أسوأ. ذلك أن القضاء المختلط نشأ في ظل قوة النفوذ الأجنبي ورعاية الاحتلال البريطاني، كما أنه كان مختصا بالمنازعات المدنية والتجارية. لكن يفترض أن مصر الآن في وضع مختلف تماما، إلا أن أزمة القضاء ثغرة أعادتنا إلى أجواء ذلك الزمن الغابر. إذ صرنا في وضع سمح للنفوذ الأجنبي بأن يتدخل، حتى في المسائل الجنائية فضلا عن القضايا المدنية والتجارية. إذا أضافه إلى شيوع شرط التحكيم، فإننا شهدنا في الحوادث الأخيرة التي عرفتها مصر كيف أن الأجانب طلبوا المشاركة في التحقيقات والإجراءات، بعدما ضعفت الثقة في القضاء والقانون. وهو ما تمثل في المطالبة بالتثبت من تأمين المطارات بعد حادث تفجير الطائرة الروسية والمشاركة الأجنبية في التحقيقات، بعد حادث تعذيب ومقتل الباحث الإيطالي ريجيني.

فى مقام سابق ذكرت أن المستثمرين الأجانب لم يعودوا يستعينون بالمكاتب الاستشارية المصرية لإبرام عقودهم، نظرا لعدم ثقتهم في القوانين واللوائح المصرية. لذلك فإنهم أصبحوا يلجأون في الاستعانة بوسطاء من الضباط المتقاعدين، لإنجاز معاملاتهم بعيدا عن الروتين وقفزا فوق تعقيدات اللوائح وتعنت بعض الموظفين.

ليس الهدف أن نتجمل أمام الأجانب ونطمئن المستثمرين، رغم أن ذلك لا يعيبنا، وإنما الأهم أن تستعاد الثقة في القانون والقضاء في مصر. ولابد أن يثير دهشتنا أن تكون الممارسات التي تهز تلك الثقة وتخصم منها خارجة من داخل المرفق القائم على العدالة، وأن يسهم وزير العدل في ذلك بتصريحاته وتدخلاته، وانشغاله بتصفية الحسابات السياسية والشخصية بأكثر من انشغاله بتعزيز الثقة في القضاء، والدفاع عن استقلاله في مواجهة ضغوط السياسة وتدخلات الأمن.

إن أزمة القضاء حين يكون لها تلك الأصداء في الخارج فضلا عن الداخل، فإنها تستدعى تدخلا لا يحتمل الانتظار من جانب أولى، الأمر يحتويها ويوقف التدهور الذي يعتريها. ذلك أن المسألة لا تقف عند حد استعادة الثقة والاحترام للقضاء والقانون، وإنما الأمر وثيق الصلة بسيادة الدولة على أرضها وبرد الاعتبار لقيمة العدل التي هي ركن أساسي في هيبة الدولة وشرعيتها. ومن المفارقات أن بعض التجاوزات التي تجرح صورة العدالة تتم باسم الدفاع عن الدولة، الأمر الذي يذكرنا بقصة الدبة التي قتلت صاحبها وهي تهش الذباب بعيدا عن وجهه.

عن صحيفة الشروق المصرية
0
التعليقات (0)