مع كل تطور عسكري أو سياسي أو أمني في العراق (تبتدع) السلطة العاجزة إجراءات مثيرة للسخرية، وتعتمد على صيغ أمنية وعسكرية متهالكة، تعبر عن إفلاس فكري وقيادي ومعلوماتي مثير للرثاء، فالسلطة العراقية تواصل المضي بعيدا في مسلسل الفشل الذريع، وفي ظل هزائمها المستمرة لا تجد مناصا من ابتداع حلول مأساوية لقضايا شائكة فشلت في إدارة أوراقها ومعالجة ملفاتها المستعصية، الحكومة العراقية اليوم وبتصفيق وتشجيع من أحزاب التحالف الوطني الحاكم الطائفية، قد شرعت في بناء خندق بعمق مترين وعرض 3 أمتار ولمسافة 100 كلم حول العاصمة العراقية بغداد؛ لحمايتها كما يقولون من هجمات وغارات تنظيم الدولة؟
والسؤال يتمحور حول فاعلية العمليات العسكرية في الأنبار إذا كانت قد فشلت في توفير الأمن والحماية للطرق الرابطة مع العاصمة بغداد! وكيف يتحدثون عن انتصارات عسكرية حاسمة فيما يقومون بتنفيذ إجراءات دفاعية الطابع تعود لتكتيكات العصور الوسطى وبناء التحصينات من خلف الخنادق، بل لعصور ما قبل الوسطى ولأيام النزاع بين أثينا وإسبارطة في العهد الهيليني؟ أي عقلية إدارية متخلفة تلك التي تُسيّر الأمور في العراق؟ وأي استراتيجية عسكرية يتم التخطيط لها عبر استحضار مخلفات فكر العصور الوسطى لتطبيقه في قلب القرن الحادي والعشرين!
لقد بلغت العدمية والمسخرة في العراق حدودها الكارثية القصوى وأضحت منهجا بائسا يعبر عن بؤس وضحالة وعدمية فكر من يحكمون العراق اليوم، ليلقون به وبشعبه في مهاوي الردى! والخندق العميق المحفور والمعزز بكاميرات المراقبة لا يمكن له أبدا أن يحمي أحدا في العمق البغدادي، بل إنه يكرس مبدأ التقسيم والضم والإلحاق وإعادة بناء المواقع الطائفية للأسف، وهو خندق مسور يذكرنا بسور العزل العنصري في فلسطين المحتلة، ويستنسخ من تلك التجربة الفاشية الصهيونية إطارا جامعا مانعا لحالة التقسيم والتشطير العراقية، التي يسعى لها بعض من غلاة الطائفيين في العراق والساعين لبناء واقع طائفي ممزق مريض، تهشم من خلاله كل الجهود الوطنية المخلصة لإعادة بناء العراق على أسس توحيدية سليمة ومنطقية.
من الواضح حتى لمن لا يفهم بأن أسوار بغداد الجديدة هي خطوة مركزية في بداية تنفيذ سيناريو تقسيمي أسود، من خلال عزل بغداد عن حزامها البشري وتحويلها لجزيرة طائفية خاصة بمكون معين، وهو تصرف يتماشى مع ما أقدمت عليه حكومة كردستان من حفر خندق يعزل إقليم كردستان عن محيطه، ضمن مسلسل رسم الخرائط الاستراتيجية الجديد. وسعى بعض للمضي بعيدا في تنفيذ حلم ومخطط تقسيم العراق وتشطيره، وجعله نسيا منسيا وجزءا من الماضي، وهو ما يهدد التوازن الاستراتيجي في الشرق القديم بأسره.
ويبدو أن سياسة الأسوار والخنادق قد باتت من مستلزمات وأدوات العملية السياسية الكسيحة في العراق، التي وصلت لنهايات كارثية مقرفة تبشر بسيادة عصر الفوضى المطلقة، فعندما تعجز الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تم صرف مليارات الدولارات عليها وعلى تجهيزاتها عن توفير الأمن للمواطن العراقي، فلابد لمافيات الظلام ولأهل الأجندات المشبوهة التحرك، وتلك وايم الله قاصمة الظهر، وطعن في قلب الوجود العراقي واستهانة بدماء شهداء العراق، الذين سقطوا دفاعا عن وحدته الوطنية وبقائه. الحكومة العراقية التي تعيش اليوم إرهاصات التغيير الداخلي، تتصرف بتخبط واضح في ظل عدم وجود استراتيجية عسكرية وأمنية واضحة، وتسوير العاصمة أمر يحمل دلالات تراجع عسكري مهين لابد أن ينعكس على الوضع الطائفي العراقي الهش، فإدارة الأزمة العراقية الطاحنة تحتاج لمقاربات أمنية وعسكرية محترفة، وليس لتخبطات قادة المليشيات الطائفية الذين أساؤوا للقيم والأعراف العسكرية والمهنية، وعبر كل تاريخ الحروب العراقية منذ أن تأسست بغداد في عهد المنصور العباسي لم يتم حفر الأسوار والخنادق، بل كانت المواجهة عبر الاستعدادات المعروفة، كل ما يجري من إجراءات حكومية هو مجرد حالة عبثية لمرحلة ميتافيزيقية من الفشل القيادي، وهي مرحلة زائلة لا محالة لكونها خارج أي تصنيف منطقي، سيظل العراق موحدا رغم الصعوبات الراهنة وستسقط أسوار الفوضى والترهل، فالأسوار الحصينة والقلاع المتينة لا تحمي الخائفين والفاشلين!