المواطن
المصري يجد نفسه محبوسا أمام قرارات جاهزة له لا حيلة له في تغييرها، وفي أحيان كثيرة من المناسب أن ننطر إلى قراراتنا الاقتصادية الفردية لنراجع هل نحن نسير قدما إلى الأمام، أم إلى الخلف؟
وما أود أن اهتم به هو بيئة اتخاذ القرار في بلادنا، فالاقتصاديين يعطون أولوية كبرى للقرارات الاقتصادية التي يتخذها كل من الأفراد والشركات والحكومة، حتى قطاع المستوردين والمصدرين، وفي هذا المقال سيكون كل تركيزنا على الأفراد على اعتبار أن حكومة الانقلاب ميؤوس منها، ولا يرجى من ورائها خير.
دعنا نبدأ، هل المواطن المصري يتخذ قرارات لصالحه في تحسين مستوى معيشته أم إن هذه القرارات -على العكس- تؤدي إلى تدهور مستوى معيشته؟ والمقصود بذلك توفير الحاجيات الأساسية من مسكن ومأكل ومشرب، وما هو الهدف الأول للأسرة في مصر رقم واحد؟
الأسرة المصرية هدفها الأول هو توفير السكن. ومع زيادة التكاليف، أصبح السكن باهظا للغاية، خاصة للفئات الفقيرة والمتوسطة، فلا يستطيع المواطن المقيم في مصر تدبير السكن المناسب له، إلا بشق الأنفس.
فعلى سبيل المثال، لو افترضنا أن السكن كحد أدنى يكلف 100 ألف جنيه، وكان دخل هذا المواطن 2000 جنيه شهريا، فإن معنى ذلك أنه يتعين عليه ليتمكن من شراء سكن، أن يدخر كل دخله لمدة 50 شهرا، أي أربع سنوات متواصلة، حتى يستطيع تملك السكن.
ولا يجد المواطن بديلا مثلا كالاستئجار السكني نتيجة ارتفاع الأسعار، ولا يجد المواطن مفرا إلا أن يدخر كل مدخراته للحصول على سكن، سواء أكان ذلك للمواطن المقيم في مصر أم خارجها.
والعجيب، أن أغلى تكلفة في المسكن هي تكلفة الأرض المقام عليها البناء في مصر في الوقت الراهن، حيث يتم شراء الأراضي لأغراض المضاربات والاكتناز للثروة، وتهريب الأموال، فالأراضي في الوقت الراهن لكثير من المصريين هي أكبر وعاء للاستثمار في نظرهم لتحقيقهم أرباحا مضاعفة، مما يطلق عليه تسقيع الأراضي.
الأعجب من ذلك، أن المصريين بعد أن يقوموا بشراء السكن الخاص بهم، فإنهم يسعون جاهدين لتأمين سكن خاص لأولادهم، وتبدأ دورة جديدة من دورات الحلقات المفرغة من جديد في صب كل التدفقات المالية والمدخرات نحو شراء سكن للأولاد، حتى إذا لم يبلغوا سن الحلم.
والحقيقة أن الاقتصاديين متفقون على أن هذا ليس استثمارا، إنما هو شكل من أشكال الاكتناز، وهو ما يحرم
الاقتصاد المصري من تدفق استثمارات ضخمة داخل شرايين الاقتصاد.
كل هذا لأن الحاكمين في مصر من أذرع السلطة المختلفة هم من يضعون أيديهم على هذه الأراضي، وبذلك يتحكمون في الاستثمار، والاقتصاد.
فالجيش وحده يضع يده على ما لا يقل عن 80 في المئة من الأراضي في مصر وهو بطبيعة الحال يؤدي إلى تضخم الأسعار بغير مبرر، كي تحقق هذه الفئة ثروات سريعة على حساب المواطن والاقتصاد في آن واحد.
إن الانقلاب كان في حسبانه أن سيطرة الثورة على الحكم تعني ضياع ممتلكات جنرالات الجيش، ولذلك أبى إلا أن يكون هو المسيطر الوحيد على الأراضي.
وعلى الرغم من أن أغلب الأراضي في مصر صحراء، وأنه كان من الممكن فتح الباب للتوسع الأفقي، إلا أن سعر فدان الأرض في مصر يعادل 33 ضعف سعر الفدان في الولايات المتحدة الأمريكية.
إن المضاربات على الأراضي في مصر في النهاية تحدث شللا في الاقتصاد، فلو قدر أن مليارات الجنيهات وجهت إلى فتح مصانع جديدة نستغنى بها عن الواردات، لزاد الإنتاج وفرص العمل والاستهلاك.
إذن، فمن هذا النموذج المطروح، لا يوجد أفق استثماري أمام المصريين إلا شراء أو بناء المسكن.
هل فكرت الحكومة مرة أن تعمل هي على توفير التخطيط العمراني للمناطق السكنية، وأن تعطي الأرض مجانا للناس؟ هل فكر الجيش بأن هذا السلوك يؤدي إلى ضعف الدولة والاقتصاد والجيش معا؟ هل فكر أحد من الباحثين الاجتماعيين في خطورة ارتفاع أسعار المساكن على صعوبة الزواج، ما يؤدي في النهاية إلى شيوع الزنا وانتشار الأمراض الاجتماعية الخطيرة في المجتمع؟
فهل تعود الحكومة عن غيها وتعطي الأرض مجانا للمصريين، في مقابل أن تجعلهم يدفعون ضرائب عقارية سنوية، ما يمهد لدخول دخل سنوي للحكومة تمكنها من دفع نفقات تعمير هذه الأراضي، أو حتى تحميل المواطنين مصاريف إمداد الشبكات الأساسية للمرافق؟
لم ولن تفعل الحكومة شيئا، لأنها تقوم بذلك متعمدة، حتى يتم إسقاط الاقتصاد المصري في بئر من الفقر والبطالة ورفع الأسعار.
إذن، سيظل الاقتصاد يراوح مكانه في ظل هذا التفكير العقيم التي دفعت إليه الحكومات
العسكرية منذ ثورة تموز/ يوليو وحتى الآن. أما المصريون فهم في صراع حتى لشراء مقابر لهم، ولنا حديث آخر مع قرارتنا الاقتصادية.