قضايا وآراء

روسيا وتركيا.. تعقيدات العلاقة وحدود المواجهة

علي البغدادي
1300x600
1300x600
لم تكن العلاقة الروسية التركية بحاجة لحادثة إسقاط طائرة سوخوي حتى تبلغ هذا المستوى من التعقيد، فمنذ أن اندلعت الثورة السورية ووتيرة تعقيدات العلاقة متسارعة، قد تكون حادثة إسقاط الطائرة تمثل الظاهرة الأوضح كونها أول اشتباك مباشر بين الدولتين، لكن المراقب لن تخطئ عينه أن ثمة تضاربا حقيقيا في الرؤى والسياسات والدور وشبكة العلاقات الدولية، وهذا كله مما يزيد من تعقيد العلاقة تعقيدا فوق تعقيد، ويفتح آفاق المواجهة بشكل متزايد.

لن نستفيض في الرجوع للتاريخ، لكن بلا شك فالذاكرة التاريخية للصراع بين القيصرية الروسية والخلافة العثمانية حاضرة في خلفية المشهد عبر سلسلة حروب وحملات عسكرية منذ القرن السادس عشر ولأربعة قرون تالية، هذه الحروب التي اقتضتها الظروف الجيوسياسية مسببا رئيسا فيها، وهي الظروف ذاتها التي جعلت حلف الناتو حريصا على ضم تركيا إليه فيما بعد. وهذا هو سبب التعقيد الأول.

صراع الكاريزما سبب آخر لتعقيد العلاقة، فالبلدان يجلس على عرشيهما ملكان غير متوجين، فبوتين هو الرجل الأقوى في روسيا بلا منازع، لدرجة أن أحد الكتاب الروس الساخرين قال: (على المستوى الشخصي بالتأكيد إن بوتين ليس له حلم، فهو بوتين وكفى)، وفي المقابل فأردوغان أثبت بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة أنه رجل تركيا بلا منازع، ولا أحد الآن في تركيا بإمكانه منافسة أردوغان، وبوتين بالنسبة للروس هو الرجل القوي القادر على تحدي الغرب وهو الرجل الذي أعاد لروسيا العظمى مكانتها الدولية، وأردوغان بالنسبة للأتراك هو الزعيم الشعبي باني نهضة تركيا الاقتصادية الذي وضعها مع (الكبار) كخامس اقتصاد في العالم.

وإذا كان الزعيمان وصلا إلى ما وصلا إليه وأنعشا الزهو القومي في بلديهما فكيف بهما والحالة هذه بأن يرضيا بالإهانة لبلديهما أو لصورتيهما؟

يمثل الخطأ في قراءة المشهد السياسي عند الطرفين سببا ثالثا لتعقيد العلاقة فتركيا رسمت سياستها على أساس إسقاط نظام الأسد في سوريا، وكانت أمامها فرص للتدخل الحاسم لكنها ترددت في استغلالها، وجاءت تقلبات المشهد السوري واستناد الأسد على حلف إقليمي قوي لتعقد الأمور ثم ظهر تنظيم الدولة ليعقدها أكثر ثم جاء التدخل العسكري الروسي ليضيف تعقيدا جديدا، وكل هذه التطورات تظهر عدم القراءة الصحيحة لاحتمالية سقوط نظام الأسد في بداية الثورة التي دخلت عامها الخامس.

وفي المقابل، فقد تدخلت روسيا قبيل الانتخابات التركية وفق حسابات تراجع قوة حزب العدالة والتنمية وبالتالي عدم تمكنه من تشكيل حكومة قوية يكون لها انعكاس على مواقفها الخارجية، فجاءت الانتخابات التركية بنتيجة مغايرة للتوقعات لتخلط الحسابات من جديد، فالحكومة التركية الآن قادرة على التصرف بمرونة وقوة في ملفات السياسة الخارجية.

يشير تطور أدوات ووتيرة المواجهة في الأرض السورية إلى سبب رابع لتعقيد العلاقة، فالثورة السورية تحولت عمليا لحرب أهلية قبل انتهاء سنتها الأولى، ثم أسهمت التدخلات الإقليمية لإضافة بعد (حرب الوكالة -proxy war ) وأصبحت سوريا مسرحا لحرب إقليمية بالوكالة، وأصبح على الأرض لكل طرف إقليمي أدواته التي يواجه من خلالها.

لكن سير الأحداث وسخونتها استدعى من روسيا التدخل المباشر في الحرب، وهنا روسيا لم تتدخل في حرب ضد دولة أخرى لكنها تدخلت للحرب ضد منظمات مسلحة، هذا الانتقال من حرب الوكالة إلى التدخل العسكري المباشر إلى الاشتباك بين سلاح الطيران التركي والروسي، ما يعني بأن الموقف يتطور صعودا وأن خطوة تصعيدية أخرى قد تؤدي إلى حرب مباشرة بين البلدين قد يحول بينها أن البلدين لا يزالان يملكان من أدوات القوة التحريكية في حروب الوكالة ما يغنيهما عن المواجهة المباشرة مثل قيام روسيا بدعم الانفصاليين الأكراد أو قيام تركيا بتسليم المنظمات المسلحة السورية أسلحة متطورة، لكن هذه التطورات لو تمت فهذا يعني السير في طريق الحرب الشاملة.

المحاور الإقليمية والتحالفات الدولية تضيف سببا خامسا لتعقيد العلاقة، فروسيا لم تتدخل في سوريا بمعزل عن غطاء ميداني مدعوم من إيران وحلفائها في المنطقة وتنسيق كامل معها عبر عن ذلك السياسيون الروس بوضوح بأنه لولا وجود إيران لما تدخلت روسيا، كما أن روسيا والصين عبر اتفاقية شنغهاي -والتي لها بعدها الأمني- تمثلان منظومة دولية لها أهدافها المشتركة في مواجهة الناتو والغرب، والصين لها مشاركتها البحرية في البحر المتوسط، وقد نقلت وكالة فرانس برس أن الصين بدأت بإنشاء قاعدة بحرية لها في جيبوتي في أكتوبر الماضي مما يمثل تطورا في الاستراتيجية الصينية، وبالتالي فالمواجهة مع روسيا لها أبعادها الإقليمية والدولية.

وفي المقابل تركيا عضو في حلف الناتو وقد سارعت بعد إسقاط الطائرة الروسية للمطالبة بتفعيل الحلف، وقد تبنى الحلف الرواية التركية وهذا يعني أن تركيا في موقف الدفاع وليس الهجوم وبالتالي ينطبق عليها قواعد الدفاع المشترك في الحلف، وبطبيعة الحال فإن انجذاب تركيا نحو حلف الناتو يسحب من استقلاليتها في القرار ويجعلها أكثر فأكثر مضطرة للدخول في مظلته، ولكن يبقى السؤال مطروحا: إلى أي مدى سيكون حلف الناتو – ونعني به أمريكا – مستعدا لدخول حرب مع روسيا دفاعا عن تركيا؟ أم أن الناتو قد يرى أن تركيا تورطه في تصعيد لا مبرر له؟

وفي البعد الدولي لتعقيد العلاقة بين روسيا وتركيا ينبغي النظر إلى البحرين: البحر المتوسط والبحر الأسود، فالبحر المتوسط يحتوي الآن على عشرات القطع الحربية البحرية من أكثر من عشر دول والعدد مرشح للتزايد، كما أن البحر الأسود بحد ذاته يعطي انعكاسا لتعقيد الموقف فتركيا الممتدة على ساحله يتواجد على أرضها قاعدة صاروخية متقدمة للناتو، وفي مقابلها تقع شبه جزيرة القرم التي أصبحت في حوزة روسيا ويتحرك الأسطول البحري الروسي من موانئها، وحكومة جمهورية جورجيا المحاذية لتركيا وروسيا موالية للغرب، أما أبخازيا فهي موالية لروسيا، وقد انضمت كلا من بلغاريا ورومانيا إلى الناتو بعد توسعه، ويعتبر البحر الأسود ساحة لتحرك الأسطول البحري الروسي الرئيسي. هذا الكم الهائل من التواجد العسكري ومن تداخل القوى يعطي صورة مرعبة عن شكل المواجهة المحتملة.

كثير من المحللين الذين استبعدوا وقوع المواجهة استندوا في قراءتهم إلى العامل الاقتصادي، حيث روسيا تعاني من أزمة اقتصادية بسبب انهيار أسعار النفط، وتركيا التي خرجت بعد الانتخابات البرلمانية من مرحلة التذبذب تريد أن تستأنف نموها الاقتصادي، كما أن حجم التبادل التجاري والمصالح التجارية بين البلدين كبير، وكلا البلدين بحاجة لبعضهما اقتصاديا بدرجة كبيرة، وهذا كله كلام وجيه، ويعتبر الاقتصاد في حالتنا كابح جيد يمنع خروج الأمور عن السيطرة لكنه ليس كل شيء.

تبقى معضلة الأمن القومي عقدة رئيسية في سياق المشهد، فروسيا بتدخلها في سوريا تريد أن تحمي أمنها القومي ووحدة أراضيها الفدرالية، وهاجس انتقال الثورات الملونة إلى أراضيها يمثل سببا رئيسيا لوقوفها هذه الوقفة أمام محاولات الإطاحة بالأسد، وهي بهذا ترسل رسالة واضحة للغرب بأنه ليس من حقكم أن تتدخلوا في الشؤون الداخلية لأية دولة وتغيروا نظام الحكم فيها، وعلى هذا الأساس تكون الحرب في سوريا هي حرب للحفاظ على الأمن القومي الروسي، وهي حرب وجود بالنسبة للروس، تكون بعدها روسيا دولة عظمى أو تنهار، وفي سبيل ذلك هم ماضون حتى النهاية.

أما من الجانب التركي فتركيا مصرة على إسقاط الأسد منذ أربع سنوات وقد عانت من جراء الوضع السوري اقتصاديا وتهدد استقرارها وأمنها الداخلي، وكانت رؤيتها تركز على إنشاء منطقة آمنة بمحاذية أراضيها، ويبدو أن التدخل الروسي قد بدد هذه الآمال. لذلك فأمنها القومي مهدد بشكل مباشر جراء هذه التطورات.

ولكن مع هذه التعقيدات السابقة ما هي حدود المواجهة المرتقبة؟

رغم ارتفاع لهجة التصعيد الإعلامي، وتبادل الاتهامات التي وصلت حدا مبتذلا باتهام كل طرف للآخر بدعم تنظيم الدولة (داعش) إلا أن الطرفين يدركان أنه لا غنى لأحدهما عن الآخر، وأن التصعيد سيضر بمصالحهما معا، وما ذكر من أسباب لتعقيدات العلاقة هي في الحقيقة أسباب ذات وجهين، قد تكون من جهة تمثل أسبابا لتدهور الأمور تدريجيا للوصول إلى المواجهة الشاملة وقد يكون في نفس الوقت عوامل تهدئة تمنع انحدار الأوضاع للمواجهة.

تحاول الدولتان بذل ما في وسعهما لاحتواء الموقف، مع أهمية الحفاظ على الكرامة الوطنية لكل منهما، وقد تستمر حالة من الجمود (ستاتيكو) فترة طويلة من الوقت بحسب تطور سير الحملة العسكرية الروسية وتحقيقها منجزات على الأرض، لكن هذا لا يعني أن الوضع ليس على (كف عفريت) وأن الأمور ليست مرشحة للتدهور، وإن كان من نصيحة نوجهها للمتابعين فهي: استعدوا للمفاجأة.
التعليقات (0)