كتب أحمد موفق زيدان: ازدحام القتل، والمقاتلين، والأجندات الإقليمية والعالمية في
الشام يُؤكد على أن المسألة أكبر من رأس أسد أو "داعش"، ويعززه إسقاط الطائرة الروسية من قبل المقاتلات التركية، الذي يتوقع أن يُحرك مياها عسكرية راكدة في المنطقة وليس سياسية، فالشام ترفض تقسيم كعكتها بين متنافسين ومتخاصمين، ذلك هو التاريخ الذي ميّزها على مدى قرون، والبحر المتوسط هو مهد الإمبراطوريات من قبل الرومانية ومن بعدها، ولذا شخّصه الشاعر أحمد شوقي، والشعراء كثيرا ما يتنبؤون، فعادة ما يكونون الأقرب إلى إدراك المستقبل وفهمه، يقول شوقي مخاطبا المتوسط:
يا أبيض القسمات والنسمات.... ضُيع من أضاعك
لا بد من الإشارة إلى أن الدورة الحضارية التي رسمها النبي عليه الصلاة والسلام لصحابته رضوان الله عليهم، كانت تعكس عبقرية مكانة الشام، فأشار عليهم بفتحها، وطفحت كتب السنة بالأحاديث الحاضّة على السكنى بالشام، وعلى منصوريتها، وكفالتها الربانية، وهو ما طبقه الصحابة فورا بتحرير لتنداح الفتوحات من بعدها، ثم عادت الدورة الحضارية على يد صلاح الدين الأيوبي، ردّا على الحروب الصليبية حين بدأ بتحرير الشام وتوّجها بتحرير بيت المقدس، ولما أرادت السلطنة العثمانية الارتقاء إلى مصافّ الإمبراطورية لم يكن لها أن تحقق ذلك دون معركة مرج دابق قرب حلب 1517 مع المماليك والسيطرة على الشام، لتنداح الإمبراطورية العثمانية إلى حدود الدورة الحضارية العالمية مجددا.
اليوم ما يجري في الشام هو كسر لنظام عالمي ظالم مقيت فُرض لتحجيم تركيا، فحصرها جيوبولوتيكيا بين جبال ووديان تركية فكان أن زنّرها بقوى ودول معادية لها، من أرمينيا واليونان إلى إيران والنظامين الطائفيين في العراق وسوريا، وجاءت الثورة السورية لتكسر أغلالا غُلت بها تركيا على مدى عقود، وهلّت البشائر التركية من الشام بأن يكون انتصار الثورة الشامية مقدمة لفتح كوة في الحصار الجيوبولتيكي الخانق المطبق عليها منذ عقود، وحين عجز النظام الطائفي مدعوما بميليشيات طائفية عربية وأعجمية، وبغطاء إيراني وبموافقة دولية غير مسبوقة على تدخل عسكري إيراني جاء الغزو والعدوان العسكري الروسيين على الشام.
تأخرت تركيا وتأخر معها أصدقاء الشعب السوري في الرد المماثل على البلطجة والغرور الإيراني، وعجزت طهران وعملاؤها عن إخضاع الشعب السوري وثورته الشامية، فكان أن اقتربت طلائع الثورة الشامية على حدود المصالح الروسية في جبال العلويين، وترافق ذلك مع عزيمة تركية على إقامة منطقة آمنة عازلة على حدودها وهو ما سيقطع الطريق على إقامة دويلة كردية للإيجار تدفع بها علنا
روسيا وإسرائيل، وسرا الغرب لإبقاء العفريت التركي داخل الزجاجة.
ليس أمام القوى العربية والإسلامية المؤيدة للثورة الشامية من بديل سوى إنشاء تحالف حقيقي وجوهري يضم الثورة الشامية ليكون سدا منيعا في وجه التآمر والبلطجة العالمية التي استباحت الشام وشعبها، وحولتهم الدعاية الروسية البلطجية إلى دواعش، باستثناء من يقف مع النظام الطائفي السوري ويقاتل في صفه، ليس أمام هذه القوى فائض وقت حتى تنتظر إلى ما لا نهاية، وتنتظر معها لتتكرم عليها قوى عالمية ودولية بغطاء سياسي أو دبلوماسي أو عسكري لتحركاتها، فأوباما حسم المسألة منذ حوالي السنة حين قال لم أمنع أحدا من التدخل لوقف الأسد عن مجازره، وبالتالي الرسالة واضحة، الحلبة الشامية مفتوحة للجميع.
الرد المنطقي والواقعي والعملي والسريع على البلطجة الكونية بحق الشام وإبادتها، هو بدعم الشام بسلاح نوعي يُعيد الوجه العربي والإسلامي الحضاري للشام، بعيدا عن المشاريع الطائفية المقيتة، وبعيدا عن مشاريع الاستبداد والاستعمار البغيض، ولعل درس إسقاط الطائرة الروسية يؤكد ذلك من أن النمر الروسي من ورق، وأن العالم لا يفهم إلا لغة القوة، وأن ما يجري من نشر صواريخ أس 400 المضادة للطيران، ومن علاقات استراتيجية روسية - إيرانية إنما يستهدف تركيا قبل أن يستهدف الشام، وأن الوقت وقت العمل ليس لمواكبة ما يحصل فقط وإنما لاستدراك ما فات، وقد فات منه الكثير بسبب تقاعسنا وتباطؤنا واعتمادنا على الآخرين.
أخيرا أنا هنا مدين باعتذار للشيخ
معاذ الخطيب، وكذلك للأستاذ محمد طيفور عن مقالي في الأسبوع الماضي إن كان ما فهمه البعض على أنه نيل منهما لترشيحهما على القائمة الروسية للمرحلة الانتقالية، فلم أكن أقصد النيل منهما، وإنما كتبت من باب التحذير، وورد اسماهما على سبيل المثال وليس الحصر، وإلا فقناعتي التي قلتها وأقولها بأن القوى العالمية عجزت عن شراء أو تأجير السوري، فضلا عن قادتهم، ولعل في فشل مشروع البنتاجون في تشكيل جيش سوري موال له حتى الآن ما يعزز هذه القناعة، ولكن مع هذا لا بد من تعزيز الجبهة الداخلية السورية؛ إذ إنه لا يُعقل أن يتفق الغرب والشرق على علمانية سورية، بينما يتقاتل السوريون على جلد الدب الذي لم يصيدوه حتى الآن، كما أنه لا بد من التأكيد على أن كل من يحلم بحل سياسي في الشام إنما يلهث وراء السراب، فروسيا حسمت خيارها، الأسد أو لا أحد، فهل يحسم الآخرون خيارهم ويدركون أن الركون إلى تغيير موقف روسيا إنما هو وهم ظهر بالتهديدات الروسية المسربة ضد تركيا.
(عن صحيفة العرب القطرية- 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015)