بينما أنت تضيع وقتك في قراءة هذه السطور، يكون هناك مليار شخص يدرسون اللغة الإنجليزية في مختلف أنحاء العالم، بينما يبلغ عدد من يستخدمون الإنجليزية لتسيير أعمالهم في هذه اللحظة زهاء 950 مليون شخص، وتسهم الكتب وأشرطة الفيديو والأفلام الإنجليزية بخمسة مليارات من الجنيهات السترلينية في الاقتصاد البريطاني، وتبلغ حصة المواد التعليمية وحدها نحو مليار ومئتي مليون جنيه من النوع الذي تزينه صورة الملكة إليزابيث، التي يبدو أنها طويلة العمر مثل أمها التي ماتت بعد عيد ميلادها الواحد بعد المائة، ما يعني أن أخانا شارلس قد يصاب بالخرف قبل أن يهنأ بالجلوس على العرش.
كل ذلك حدا بالحكومة البريطانية إلى زيادة مخصصات المجلس الثقافي البريطاني، ليكثف من حملاته لتدريس الإنجليزية، بحيث تصبح لغة قطاع الأعمال عالميا بلا منازع. خاصة وأن ظهور الإنترنت جعل تلك اللغة الأداة الرئيسة لنقل وتبادل المعلومات والمراسلات.
أما الولايات المتحدة، فإن عائداتها من المواد الترفيهية باللغة الإنجليزية، تبلغ تريليونات الدولارات سنويا، وكم من فيلم أمريكي كانت عائداته مليار دولار في اليوم الأول لعرضه، وتكسب مطربة مثل بيونسي ناولز من "شريط" واحد، أكثر مما تجنيه سبع دول عربية من المستحقة للزكاة، من صادراتها في سنة كاملة، ويعتقد البعض خطأ أن الشباب العربي يبذل المال الكثير للاستماع للعجرمية وأختها هيفاء بنت وهبي، في حين أن حقيقة الأمر، هي أن شبابنا معجبون بتضاريس كل مطربة تستخدم معظم أعضاء جسمها، لشد الانتباه، وليس بأصواتهن، ومن ثم يتابعون "إنتاجهن" على يوتيوب في الإنترنت، بعقلية "سمع وشوف"، وبلا مقابل.
والشاهد هو أن سدنة اللغة الإنجليزية، يستخدمونها لإنتاج مواد تشد الشعوب الناطقة بلغات أخرى وتشجعها على تعلمها، وبالمقابل تقوم وزارات التربية العربية، بجهد ضخم لتنفير الطلاب من اللغة العربية، بحشو مناهج العربية بمواد سخيفة ثقيلة على القلب، أكثر من نصفها ينضح بالنفاق ومسح الأجواخ للحاكمين بأمرهم، بحيث تصبح خطبهم هي النبع الذي يستقي منه الطلاب أصول التعبير والبلاغة، وقواعد النحو.
ويحلو لكثير من الحكومات العربية التبجح بتعريب المناهج الدراسية، مع أن كل ما في الأمر، هو أن المقررات الأكاديمية مكتوبة بلغة عربية فصيحة، ولكن التدريس يتم باللغة العامية الدارجة: نحط الخلطة ع نار هادية وايش راح يصير؟ و"أبو ضبي" عاصمة الإمارات و"الغاهرة" عاصمة مصر. و"السلفر" لونه أصفر، ما يدوبش في الميه وما ينجذبش بالمغنطيس!
ويوكل تدريس مناهج اللغة العربية على وجه الخصوص، لأناس بلا حافز ولا دافع، فمدرس اللغة العربية، أقل مرتبة في نظر مسؤولي التعليم من مدرسي بقية المواد، ولا يحلم بالترقية إلا بعد أن يشيب الغراب، ويكون هو وقتها شاب وأصيب بالقرف والخرف، وهو علة تصيب المدرسين في سن مبكرة، والدليل القاطع على ذلك هو أنني بدأت حياتي المهنية مدرساً!!!!!
وما من أب أو أم في العالم العربي، إلا وأصابه هوس تعليم أبنائه وبناته الإنجليزية، وذلك عين العقل لأنها لغة أساسية للمعارف والعلوم، ولكن أن يسعى إنسان لإجادة لغة أجنبية بينما إلمامه بلسانه الأصلي، مثل إلمام فيفي عبده بموقع سيناء في الخريطة، فهذا عيب ونقيصة.
أقول هذا وأنا أعرف أنني لا أجيد العربية كما أتمنى، لأنها لغة مفخخة فما أن تقول أو تكتب شيئاً حتى ينبري لك أحدهم صائحاً: قل كذا ولا تقل كذا! (كتبت هنا في مارس/ آذار من العام الماضي مقالا بعنوان "التعلل بصعوبة اللغة هو العلة") وعذري في عدم إجادتها هو أنني نوبي أعجمي – كما ذكرت مرارا في مقالاتي - تعلمتها في المدرسة، في زمان كان يتم فيه تدريس المناهج كافة في السودان بالإنجليزية، ثم عشقتها وعشقتني و"عشق ناقتها بعيري".
وقد تطرقت لموضوع أهمية العناية بتعليم وتدريس وتجويد اللغة من عدة زوايا، وعبر عدة مقالات في "عربي21"، وسأظل أطرق رؤوس من يريدون مواتها وتهميشها، وأستحث الهمم كي ألفت الانتباه إلى جماليات هذه اللغة، مع التذكير بأنني من العرب المستعربة، وفي رواية أخرى المستنسخة، ومع هذا أحس بالسعادة لأن الله أعانني على امتلاك ولو جانب من ناصية العربية.
أعني أنني بذلت وما زلت أبذل كل جهد ممكن للارتقاء بلساني عربياً، و"كنا فين وبقينا فين"، فقد أتى علي حين من الدهر كنت فيه أرفع يدي في حجرة الدراسة، لأقول لمدرسي أبو شنب معقوف: "ممكن تشرحي الكلام دي تاني يا شيخة"، أو يحاول بعضنا مجاراة عيال الخرطوم فنقول عندما نرى فتاة جميلة "يا هلو (حلو) أنت يا شطة".
ويفسر هذا خيبة النوبيين في مجال الغزوات والنزوات، لأن الواحد منا سرعان ما يعرف قدر نفسه بعد أن يتعرض للتهكم والاستخفاف، فكيف عن مضايقة بنات الناس، وعندما يستقيم اللسان، نكون قد بلغنا النضج الذي يعصمنا من الصغائر!