يستشعر المراقب حاجة الفئة الحاكمة إلى شرعية تاريخية مفقودة وأنه يعاني من نقص سردية غير مكتسبة. ويعكس تنظيم نخبة الماتركيس السوري الاحتفال بعيد "الأكيتو" بعد الثورة السورية، هذا النقص، وهو حسب زعمهم رأس السنة السورية الـ 6765 الذي يصادف وفقاً للتقويم السوري الأول من نيسان من كل عام وهو عيد الكذب حاليا! احتفل به في اللاذقية فقط لا غيرها من المدن السورية!
احتفالات "عكست" إرادة السوريين حسب جريدة التومان اللبنانية، واستعادة الحضارة والهوية السورية، وإعادة الاعتبار للقيمة التراثية لهذا اليوم الذي ضاعت هويته. والأول من نيسان هو موعد هبوط «عشتار» إلى العالم السفلي لإنقاذ «تموز». و موعد زيارة مستشارة الرئيس الشمطاء إلى أمريكا لإنقاذ الأسد.!! ومن العلامات الكثيرة انقلاب عداوة الماتريكس للكرد إلى عشق وتحالف، لكن بعقيدة كرد تركيا "الاكيتويين". من المفارقات الضحارية: تحوّل الأصدقاء الفرس إلى أشقاء، والسعوديين الأشقاء إلى أعداء وتكفيريي السيسي إلى غيفارا العرب..!!
السردية كما يفهمها كاتب السطور حكاية تأسيسية كبرى، أولى، أو نص مقدس نزل من السماء، أو كتبه الأجداد، بقي حياً في الذاكرة، أو عتقه الزمن، فصار مقدساً. قد يكون شفهيا أو مكتوباً في رقٍ أو طوامير، أو أسطورة... سردية المسلمين هي القرآن الكريم الذي يمتد بجذوره إلى أبي البشر، والسنة النبوية.. توصف الحضارة الإسلامية بأنها حضارة نص. وسردية الغرب تلتمس في نصين هما الإنجيل وطروادة. وسردية اليهود في التوراة وأسطورة شعب الله المختار. وسردية الفرس في الشهنامة التي لقحت بقصة الحسين الشهيد.. وبعد الثورة، فسدت العلاقة الإستراتيجية بين الماتريكس السوري وبين حماس، والعرب الذين باتوا عرباناً وبداوة ومتخلفين أمويين، غزوا الشام وتعلموا منها الحضارة! وكأن حكام الشام الحاليين شوام؟ يستشعر النظام بفقر في الدم الفكري وعوز في النص والذاكرة والذكرى..
يمكن أن نرى إشارات وعلامات على غياب السردية باختباء النظام وراء جبهة الصمود والتصدي في الثمانينيات، وخلف خطاب المقاومة والممانعة حاليا، فباني النظام كان يعرف أهل الشام، ويحسّ منذ البداية بحتمية الحرب و ضرورة " الجهاد "، فجمّد الشعب في" اكواريوم" خطاب المقاومة وحوض زينة الممانعة، ورفعها شعاراً، ومنع أي تعاطف معها خارج مراقبته و مسرحياته الكبيرة في الشوارع أو التلفزيون.. فالمظاهرة تؤجل بعد يوم أو أسبوع من الحدث الفلسطيني، لحين تحويلها إلى مسيرة مضبوطة خوفاً من"المندسين". التبرعات تجمع، لكنه هو الذي يرسلها لأهلنا في فلسطين، أو على الأغلب لأهله في فرع فلسطين.
يمكن أن نرى إشارات وعلامات على نقص السردية غير المكتسبة في الرقابة على الثقافة، علماً بأن شعاراً كبيراً كذّاباً، للرجل الذي خطف سوريا، وأخرسها، واغتصبها، يقول: "لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير"! الشعار في آخر أقليس علامة وهوية، وإنما هو كذبة وقناع. وكان شعار آخر أقل نبرة من الأول يقول فيه: " لا أريد لأحد أن يسكت عن الخطأ أو يتستر على العيوب والنواقص".. خصصت لهذا الشعار زاوية صغيرة، بل حقيرة في الجريدة مختصة بحفر الطرق وسوء حال الخبز وتوزيعه.. ويلاحظ في الشعار الثاني ضخامة "الذات" التشريعية "فهو" لا يريد؟ ثم أنه يوحي بأنّ الحياة شبه كاملة، وثمة عيوب ونواقص.. الناقص هو السردية، وهو يقول فيها أنا هو السردية.
ولأنّ ثبات الحال من المحال، دخلت بفعل التطور الحضاري والثورة الرقمية، أو بفعل الطمع والاحتكار الهواتف النقالة (شركة واحدة فقط تحتكر الهاتف من غير حقوق دستورية للمستهلك). طوَّر الماتريكس السوري سردية سورية بصرية اسمها "الفانتازيا التاريخية وغالبا لا تقوم الدراما البصرية مقام سردية النص عند العرب. يقال أن شيخ المخرجين السوريين هو أول من ابتدرها، وإن كان فعل فبغرض التنويع، أو لعلها بغريزة البقاء والحذر والتسلية.. لكنها تطورت وتحولت إلى ايديولجيا على يد مخرج من إحدى الأقليات القومية، فتحولت من مسلسل واحد إلى مسلسلات مكسيكية هي الجوارح والكواسر والبواسل، غرضها الظاهر التسلية، والباطن هو دفن سردية الشعب الباسل الحقيقي ووأدها.. وتصدير وتوثين أبطال من ورق لا علاقة لهم بالتاريخ .. حتى المسلسلات التاريخية، كانت تتحرى آذار على توثيق التاريخ، فالشيوعيون بلشفيك، أما المسلمون فهم طالبان الحور العين، والآن دواعش وتكفيريون .. لا تاريخ تقريبا قبل ثورة الثامن من آذار. شكري القوتلي ديناصور أو لعله شخصية إسكندنافية!
صدر مؤخراً كتاب فريد من نوعه، ومذهل ومفاجئ، مع أنه يحذو حذو عشرات الكتب التاريخية، لكن بمعيار مختلف.. والتاريخ الإسلامي ليس له مثيل في التراجم والجرح والتعديل، كان عنوان المصنف فريداً وغريباً! وهو: "رواية اسمها سورية": وفيها مائة شخصية مشهورة وأخرى مغمورة، جمعت كلها مثل كومبارس أو حواريين حول الماتريكس الذي وصف في الكتاب بأنه معاوية بن أبي طالب! ومن أجل ذلك لم يجد مؤلفو الكتاب حرجاً في استضافة كاتب كردي اسمه سليم بركات هو الأخير حسب ترتيب الأبجدية. أما محمد سعيد رمضان البوطي، فلم يجد له مقعداً في الرواية المحجوزة لعناصر منتخبة بالملقط والمشرط، علماً بأنه شخصية مؤثرة. تحول البوطي لاحقاً في إعلام النظام، بعد مقتله إلى إمام ورئيس اتحاد علماء الشام! وهي كيان مختلق دعته الضرورة الإعلامية لم يكن يسمح النظام لمثله بالولادة السياسية.
مؤخراً طلع القمر علينا بأطروحة سردية، من ثنيات فروع الأمن، هي: الايدولوجيا "المشرقية".. وقد صارت عنواناً لبرنامج في أحد تلفزيونات التومان الكسروية بعد جعلها في محل جر بالإضافة. العنوان هو "أجراس المشرق". الأجراس تغريب و بحث عن تأصيل ملفق، ومغازلة للأقليات الدينية بألحان تغازل فئات مشرقية.
الهروب من التاريخ نجده في كل خبر وفكرة وشعار.. مثلاً: الاحتفال بعيد الثامن آذار، وهي ثورة مطلقة لا تعرف لها أبطالاً مثل الانفجار الكبير " البيغ بانغ" في النظرية الكونية ! والتذكير المرة تلو الأخرى بتاريخ سورية الذي يمتد لعشرة آلاف عام! تداول قول "الرب بعل" على صفحات المشرقيين: حطّم سيفك وتناول معولك واتبعني لنزرع السلام والمحبة في كبد الأرض( 5000 سنة قبل الميلاد ). يريدنا ناقل هذا القول أن نحتفل بهذا القول المزعوم ويكذب قصف الرب بغل للشعب غير المشرقي بالبراميل، فهي أفلام مفبركة ! أعتقد أنّ الصنم بغل كان يقول للسوري يومياً: اربط لسانك واخفض بصرك واتبعني إلى الفرع لنزرع الخوف والرعب في كبد الشعب. تقول الأغنية الشعبية: المشرقية منين منين يا للي سقوها بدمع العين.. ".