بموجب القواعد الجديد، سوف يحظر على من يزعم بأنهم متطرفون – تماما كما هو حال من يرتكبون الاعتداءات الجنسية – أن يعملوا في مجالات تتعلق برعاية وتعليم الأطفال.
يمكن للأنظمة الديمقراطية أن تفشل بسبب عوامل متعددة ومتنوعة، منها الفضائح، والحروب، والانهيار الاقتصادي.
وفي بعض الأوقات تصاب بالجنون. هكذا هي الأمور ببساطة. جاء على مارغريت تاتشر زمن بدت فيه كما لو أنها كانت لا تقهر. ولكن بفضل مفارقة معاندة، أصبحت هشة.
بدأت المرأة تتصرف بشكل غير عقلاني، فخرجت على الناس بضريبة الرأس (الجزية)، ومارست بحق زملائها المؤتمنين أساليب من الإرهاب السادي، وانتهى بها المطاف إلى أن ألقي بها من النافذة بشكل صادم في نوفمبر 1990.
والآن، تمارس إدارة رئيس الوزراء دافيد كاميرون بعضا من نفس تلك العجرفة، وخاصة منذ الانتصار الصاعق الذي حققه المحافظون في الانتخابات في شهر مايو الماضي.
ما حل بحزب العمال من هزيمة مهينة، وما لحق بحزب الأحرار الديمقراطيين من دمار، كل ذلك ترك المحافظين في ما يبدو في حالة من التحكم المطلق بالمشهد السياسي. وبات كاميرون يشعر بأن لديه من السلطة التي لا يقيدها شيء أكثر مما حازه أي رئيس وزراء بريطاني منذ جيل كامل.
ومع ذلك، فقد رأينا خلال الأسابيع الأخيرة سلسلة متعاقبة من الأخطاء. ففي ما يتعلق بالشأن المحلي كانت أهم هذه الأخطاء هي الانفجار الداخلي في الميزانية التي طرحها في يوليو الماضي وزير المالية جورج أوزبورن.
فكجزء من خطة التقشف التي أعدها، قلص أوزبورن بدل الضرائب الذي يتلقاه الفقراء من العاملين، وهو خطوة ستؤدي إلى خصم ما يزيد على ألف جنيه إسترليني (أي ما يعادل 1500 دولار أمريكي) من متوسط الدخل السنوي لما يزيد على ثلاثة ملايين عائلة تعيش حاليا ظروفا في غاية الصعوبة.
وهو الآن يواجه ما يشبه التمرد ليس فقط من قبل عامة الناس في البلاد، بل وأيضا من داخل حزب المحافظين نفسه.
وبالأمس وردتنا أخبار صادمة، حيث اتضح أن المدونة الوزارية في بريطانيا – وهي وثيقة مكتب الحكومة التي تضع المعايير الأخلاقية للحكومة – قد جرى تعديلها خلسة بعد النصر الذي أحرزه المحافظون.
أما وقد خرج الديمقراطيون الأحرار من السلطة وكذلك من الائتلاف، فإنه لم يعد الوزراء مطالبين بالالتزام بمعايير القانون الدولي أو بما تفرضه المعاهدات الدولية في هذا الشأن.
لم يخرج أحد على الناس حتى الآن ليشرح لهم ما الذي جرى ولماذا طرأ التغيير. إلا أن تجاهل التزام بريطانيا بشروط المعاهدات الدولية سوف يسهل على الوزراء بكل تأكيد إبعاد المشتبه بتورطهم في الإرهاب، مثل أبو قتادة، الذي أبعدته بريطانيا إلى الأردن في عام 2013، ولكن بعد جدل طويل خاضته مع المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
كانت بريطانيا من أوائل الدول التي صدقت على المعاهدة الأوروبية في عام 1951. فلو قررنا أن نغادرها، فإننا سننضم إلى روسيا البيضاء وسنصبح جزءا من مجموعة صغيرة من الدول غير المنضوية في المعاهدة، وهذا سيبعث برسالة مرعبة إلى العالم.
وفي ما يلي مؤشر ثالث يكشف بشكل واضح عن أن انحرافا ما قد وقع لحكومة كاميرون خلال أقل من ستة شهور بعد إجراء الانتخابات.
هذا الأسبوع قام رئيس الوزراء ووزيرة داخليته تيريزا ماي، بنشر استراتيجية الحكومة لمكافحة التطرف. يقول كاميرون إن الوثيقة المكونة من خمسين صفحة يقصد منها "بناء بلد أكثر تماسكا من أجل أبنائنا، ومن أجل أحفادنا، ومن أجل كل الأجيال القادمة".
ما من شك في أن ذلك هدف نبيل، ولا يملك المرء إلا أن يعجب به، ولكن لا يوجد أدنى فرصة في أن تسهم مثل هذه الوثيقة في بناء كيان أكثر تماسكا، بل على العكس من ذلك، أعتقد أنها سوف تضرب مزيدا من الأسافين بين مكونات المجتمع البريطاني.
نعلم من هذه الوثيقة أن كاميرون وماي سيقيمان ما قد ينطبع في الأذهان من اسمه أنه أمر مشؤوم، ألا وهو "وحدة لتحليل التطرف" داخل وزارة الداخلية.
سوف تشرف هذه الوحدة على إعداد قائمة سرية بأسماء "المتطرفين". وكما هو حال من يرتكبون جرائم اعتداءات جنسية، فسوف يحظر على هؤلاء "المتطرفين" العمل في المجالات التي تعنى برعاية الأطفال. وطبقا لبعض التقارير (رغم أنني لم أجد ذلك مذكورا بشكل صريح في أي وثيقة) فسوف يكون لدى الحكومة صلاحيات لإغلاق المساجد. وستكون لدى الحكومة صلاحيات جديدة تمكنها من الرقابة على المنشورات والحد من حرية التعبير وإصدار أوامر حظر بحق من قد تعتبرهم "متطرفين".
لا يمكن لعاقل أن ينكر أن بريطانيا تواجه تهديدا بالإرهاب، أو أن من الواجبات الأساسية للحكومة القيام بحماية مواطنيها، بل إنها ستعتبر وزيرة الداخلية مقصرة ومهملة فيما لو أغفلت اتخاذ ما يلزم من إجراءات الحيطة.
ولكني أعتقد جازما بأن وثيقة هذا الأسبوع لن تجدي نفعا في مكافحة الإرهاب، بل إن كل ما ستؤدي إليه هو التسبب في مزيد من الإقصاء للغالبية العظمى من المسلمين العاديين المسالمين.
ولست أبدا الوحيد في هذا الاعتقاد، وبقدر ما تنامى إليّ من علم، فإن العديد من الخبراء داخل الشرطة وفي الأجهزة الأمنية يشاطرونني الرأي نفسه. ومن الأشخاص المهمين الذين أبدوا تحفظا على ذلك وأفصحوا عن آرائهم بيتر فاهي، كبير المفوضين في شرطة مانشستر الكبرى.
وتحمل تصريحات السير بيتر وزنا خاصا، لأنه يتكلم باسم الشرطة ككل في ما يتعلق باستراتيجية الحد من التطرف. وكان قد عبر لصحيفة "الغارديان" عن ذعره من أن "الجهود المبذولة للتحكم بالخطاب المتطرف سوف تحد من حرية التعبير وسوف تؤدي إلى نتائج عكسية إذا لم نفلح في إيجاد حالة من التوازن".
تثير تصريحاته سؤالاً مقلقا.. لماذا تتبنى حكومة كاميرون استراتيجية لمكافحة التطرف يخشى معظم الخبراء في هذا المجال – بما في ذلك الشرطة وعناصر داخل أجهزة المخابرات – أن تكون خاطئة؟
أظن أن هناك سببين؛ أما الأول فهو سياسي.. بإعلانه أنه سيتنحى عن موقعه كرئيس للوزراء في الانتخابات القادمة، يكون كاميرون قد دشن السباق على زعامة الحزب. ووزيرة الداخلية تيريزا ماي لديها دائرة من المؤيدين داخل حزب المحافظين ممن ينتسبون إلى اليمين الفاشستي. وقد سارع هذا التيار في الحزب (ومعه قطاعات واسعة من وسائل الإعلام في بريطانيا) إلى إبراز إعلانها وتلميع صورتها هذا الأسبوع.
وأما السبب الثاني فأيديولوجي؛ فقد قامت حكومة المحافظين بإعادة صياغة استراتيجيتها لمكافحة التطرف من خلال اعتناق ما أطلقت عليه مصطلح "التطرف غير العنيف".
من شأن هذه العقيدة توسيع محيط دائرة الشك إلى أبعد بكثير من دائرة أولئك الذين يخططون فعليا للقيام بأعمال عنيفة. بات لدينا الآن صنف جديد: أولئك الذين تساورهم (فيما يزعم) أفكار كريهة. ومن هنا جاء شعور السير بيتر بالخشية على حرية التعبير.
إلا أن القلق بشأن مصطلح "التطرف" يمتد إلى أبعد من مجرد حرية التعبير. فمن ذا الذي سيحدد من هو المتطرف ومن هو المعتدل؟ ثم، ما هي القيم البريطانية التي يزعم أن من يسمّون بالمتطرفين يعارضونها؟
لم تأت وثيقة وزارة الداخلية الأخيرة بأي شيء يشبه ما يمكن أن يعتبر إجابة مقنعة. ما من شك في أن الإخفاق في الخروج بتعريف واضح سوف يؤكد الشكوك بأن سياسيي حزب المحافظين متورطون في سياسة أشبه ما تكون بلعبة صفارة الكلب.
بمعنى آخر، أن الوثيقة الأخيرة تبعث برسالة حول مسلمي بريطانيا، وهي رسالة مبطنة، فحواها: كلكم مطلوبون.
سيكون ذلك مريعا. ورغم ذلك فثمة أشياء جيدة في التقرير، فهو يتحدث عن الخطر الذي تشكله الإسلاموفوبيا والنازية الجديدة المتطرفة، ويتحدث عن ذلك بلغة قوية لم أشاهدها من قبل.
بالإضافة إلى ذلك، نرحب بما ورد النص عليه في إعلان هذا الأسبوع من تصنيف جديد لجرائم الكراهية التي تمارس ضد المسلمين، حيث ستكون الشرطة ملزمة من الآن فصاعدا بتدوين الاعتداءات التي تقع ضمن ما يسمى الإسلاموفوبيا، كما كانت تدون، محقة، حالات الاعتداءات التي تصنف ضمن مناهضة السامية. لقد تأخرت هذه الخطوة كثيرا، ولكنها أما وقد أتت، فتحية لها، رغم أنها جاءت في أسبوع لا يحمل أخبارا سارة لمن يعلون مكانة الحريات التقليدية البريطانية.