كتب محمد عايش: الأحداث التي شهدتها مدينة القدس والأراضي الفلسطينية، خلال الأيام الماضية، ليست سوى انتفاضة، هي انتفاضة كاملة الأوصاف ومطابقة للمعايير القياسية، هي ثورة شعبية ضد الاحتلال، أعادت توحيد الأرض والإنسان والوجدان في فلسطين، بعد سنوات عجاف من الشلل السياسي والوطني الكامل.. باختصار هذه هي الانتفاضة الفلسطينية الثالثة.
يتدفقُ الدمُ الفلسطينيُ مجدداً بكل كرم وسخاء ليغسل عار هذه الأمة، التي تركت نساء فلسطين وحدهن يدافعن عن المسجد الأقصى، ويقفن في وجه عدوان الاحتلال، في مشهد لا يمكن قراءته إلا في إطار «أزمة الرجولة» في العالم العربي.. ذلك العالمُ العربي الذي تنشغل جيوشه اليوم في قتل وقمع شعوبه، وينشغل حكامه في العض على كراسيهم بأيديهم وأرجلهم وأسنانهم وكل ما يمتلكون من قوة وجبروت!
تقف فلسطين اليوم على مشارف انتفاضة أقصى جديدة، وهذه الانتفاضة تحمل جملة من الدلالات المهمة، التي يجب ألا تغيب عن ذهن أي متابع، فهي هبة شعبية تأتي في ظل ظروف استثنائية، ليس فقط في الأراضي الفلسطينية، وإنما في المنطقة العربية برمتها، على أن هذه الدلالات تتلخص في ما يلي:
أولاً: تأتي الهبة الشعبية الفلسطينية الجديدة متزامنة مع موجة من التشاؤم واليأس والقنوط يشهدها العالم العربي بأكمله، بعد أن فشلت أغلب ثورات الربيع العربي، إن لم تكن جميعها، خاصة في مصر التي انتهى الحال فيها إلى نظام وريث لحكم مبارك، بل أسوأ منه في الداخل والخارج، حيث أحكم السيسي الحصار على غزة، ورفع يديه عن قضايا الأمة، وشن أسوأ حملة قمع واستبداد تشهدها مصر منذ فترة الحكم العثماني.
وبهذه الأحداث الفلسطينية يتبين أن الفلسطينيين لم يعودوا بانتظار التغيير في العالم العربي، وأنهم يخوضون معركتهم بأيديهم، وأن اليأس والقنوط والمزاج السلبي السائد في العالم العربي، لا يمكن أن ينسحب على الشعب الفلسطيني الذي يقارع احتلالاً عمره 67 عاماً.
ثانياً: الانتفاضة الفلسطينية الجديدة تمثل تصدياً لمحاولة إسرائيل الاستفادة من الوضع العربي المتردي، فالإسرائيليون يصعدون من عمليات الاستيطان والاعتداء على المسجد الأقصى محاولين استغلال تحييد مصر وانشغالها بأزمتها الداخلية، وتورط حزب الله في سوريا، وانهيار الدولة السورية بما فيها الجيش، الذي أصبح مفككاً بسبب الأحداث الداخلية، إضافة إلى انشغال دول الخليج بالحرب في اليمن، ما يعني أن اسرائيل كانت تقرأ المشهد في المنطقة العربية على أنه الفرصة التاريخية الأهم والأكبر من أجل الانقضاض على الأرض والانسان في فلسطين، وهو ما تبين بأنه غير صحيح، حيث أن الانتفاضة أظهرت أن الفلسطينيين قادرون على القول (لا)، وأن العرب – على تردي أوضاعهم- فإن فلسطين والأقصى تظلُ قضيتهم المركزية الأولى وقاسمهم المشترك الأكبر.
ثالثاً: الانتفاضة الفلسطينية تؤكد اليوم أن الأجيال في فلسطين تتعب لكنها لا تموت، فجيل انتفاضة الحجارة تعب في منتصف التسعينيات وتنحى جانباً، لكن سرعان ما صعد الجيل الثاني في انتفاضة عام 2000، وهو الجيل الذي تعب لاحقاً لكنه ما مات، ليأتي اليوم جيل جديد من الشباب الفلسطينيين الذين يتصدون للاحتلال، وهو الأمر الذي يعني في التحليل الأخير أن القمع الإسرائيلي لا يمكن أن يجلب أمناً، ولا يمكن أن يكون حلاً نهائياً، لأن الفلسطيني يتعب لكنه لا يستسلم ولا يموت.
في فلسطين اليوم ثمة غليان غير مسبوق، وثمة اعتداءات إسرائيلية تستهدف الإنسان والأرض والمقدسات، ويبدو واضحاً أن إسرائيل تحاول استغلال حالة التردي في العالم العربي، والانقسام في الشارع الفلسطيني، والانشغال في الوسط الدبلوماسي، والانكفاء الأمريكي الكبير من هذه المنطقة.
فلسطين اليوم أمام انتفاضة ثالثة، وهو ما يعني أنها أمام جيل فلسطيني جديد، وأمام هبة جديدة، ولا أحد يمكن أن يتوقع إلى متى يمكن أن تستمر هذه الانتفاضة، وهي الانتفاضة التي تؤكد على أن الرهان الإسرائيلي على الاستفادة من الوضع العربي سيكون خاسراً في النهاية، وفي حال أراد العالم وأراد الاسرائيليون تجنب الانتفاضة الجديدة فهذا يتطلب ردع الإسرائيليين أولاً عن العبث في الجغرافيا الفلسطينية، وإجبارهم على التوقف عن اعتداءاتهم، ومن ثم ترك الفلسطينيين يقيمون دولتهم المنطقية القابلة للحياة والبقاء، التي يستطيع رئيسها ومواطنوها أن يتنقلوا بين مدنها وقراها من دون أن توقفهم الحواجز الإسرائيلية.. ما عدا ذلك فالأرض الفلسطينية على موعد مع نزيف جديد.
(عن صحيفة القدس العربي- 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2015)