لكل مرحلة
فلسطينية شعاراتها ووعودها. كان الحديث قبل سنوات أربع مثلا عن "استحقاق أيلول"، فاتضح أنّ الشعار قد تضخم مجددا دون فحوى. حدث مثل هذا من قبل ومن بعد، فخطابات "الاستقلال" وإقامة "الدولة" تلاحقت تباعا وأعيد إنتاجها بوصفات محسّنة منذ عام 1988، ثم تأكد أنها ظاهرة صوتية ورمزية لا تنعكس على الواقع.
الحقيقة التي يراها جميعهم أنّ الاستقلال الفلسطيني لم ينهض بعد، وهذه هي خلاصة ربع قرن تقريبا من تدشين عملية سلام الشرق الأوسط، التي انطلقت في مدريد يومها. وقد مضت اثنتان وعشرون سنة على مصافحة تاريخية جرت في حديقة الزهور، وما حصل عليه الفلسطينيون منذ ذلك الصباح المشرق في البيت الأبيض هو مسيرة مديدة من التيه السياسي، مشفوعة بوفرة من الألقاب واللافتات والأعلام .. كثير من الأعلام في الواقع.
ما زال الإنجاز السياسي يدور منذ ذلك الحين حول الرمز دون الجوهر، والجديد في حصيلة الإنجازات الرمزية أنّ علم فلسطين بات يرفرف في فضاءات الأمم، مع ترسيخ الاحتلال بالطبع. يفي هذا بمنطق التسوية التي نهضت في واقعها على رفع الأعلام دون منح السيادة، وعلى إقامة مظاهر دولة؛ دون الدولة ذاتها.
لم يعد لدى مشروع التسوية ما يقدمه من وعود للشعب الفلسطيني. تم تجريب الشعارات جميعا، وإطلاق المصطلحات بأنواعها، حتى سئم الفلسطينيون ألوان الجولات التفاوضية وصنوف الاتفاقات وأنواع اللافتات. ما تدركه الأبصار في القدس هي الهجمة المتعاظمة بكل ما فيها من توسع واستفزاز، وما يراه الجميع في الضفة هو الجدار والاستيطان والتفتيت والحواجز، وما يعايشه القطاع هو الدمار والحصار والخنق، وما يلمسونه في الداخل المحتل هو التجاهل المطبق لوجودهم في الخريطة الفلسطينية أساسا، أما الخارج فيشهد النكبات التي تتعاقب على تجمعات اللاجئين الذين لا يرون دولة فلسطين، فيبحثون عن فرص الأمان ولو بركوب المخاطر.
إنه زمن جدير بالغضب الفلسطيني، أو لعله موسم "القنبلة"، التي قيل في التسريبات المنسوجة بعناية إنّ الرسمية الفلسطينية ستظهر بها في قصر نيويورك الزجاجي. فالواقع أنّ الساحة الفلسطينية تختزن غضبها المتراكم، ويتعاظم الاحتقان بفعل الاستفزازات المتعاظمة في ساحات الأقصى، بينما تبدو السلطة بمؤسساتها ورموزها عالقة في الفخ المحبوك مسبقا، فليس بوسعها أن تتقدم أو تتأخر.
ليست القنبلة سوى تعبير عن موجة جديدة من التصعيد اللفظي. فواقع الحال أنّ الرسمية الفلسطينية لم تصعد منصة الأمم بأي قنبلة، ولا حتى بالمسدس الذي كان يظهر به الرئيس الراحل. ولو قرر رسميو السلطة حمل القنابل لطوّقتهم القوات التي باشرت تهشيم مقاطعة رام الله من قبل، وسيطالب الراعي الأمريكي بأهمية "إنجاز انتقال قيادي في السلطة" سيجري فرضه طوعا أو كرها؛ ألم يحدث هذا من قبل؟!
ثمة حملة دعائية داخلية سبقت الخطاب السنوي في الأمم المتحدة، استعملت فيها الرسمية الفلسطينية أسلوب التسريبات، فكيف لرئيس ألا يأتي بجديد لشعبه في سياق قضية متحركة وحبلى بالتفاعلات. قيل في التسريبات إنّ الخطاب سيكون مهما، مهما جدا، بما يسترعي الانتباه إلى مفاجأته.
انتقت الدعاية الرسمية هذا الاختيار اللفظي بعناية، فتعبير "القنبلة" جاء في ذيل المصطلحات المدوية والمفخخة التي اعتاد عليها الفلسطينيون. ففي منشأ المسار اليائس؛ جرت الانعطافة الفلسطينية صوب التسوية تحت لافتة "سلام الشجعان" ابتداء، فكانت رسالة تكييف معنوي لا غنى عنها للانزلاق من روح الثورة على الاحتلال إلى حقبة المصالحة معه، فقد تمّ هذا بشجاعة حقا. آل الأمر بعد ربع قرن من الشعارات المدوية إلى "القنبلة"، ومقصدها أساسا كسب الاهتمام للحظة صعود اليأس السياسي إلى المنصة الدولية، كي تتحدث باسم شعب يستبطن الغضب.
لا جديد تحت الشمس سوى موجة محسوبة من التصعيد اللفظي ورفع الأعلام، وقد تم تخفيفها على الأرجح بعناية خشية دفع الأثمان الباهظة في اليوم التالي. ولا تخفى التطمينات العملية التي يحوزها المحتلون، لأنّ ثوابت العلاقة الرسمية معهم غير قابلة للمساس. كان التنسيق الأمني وسيبقى، وستظل خطوط التواصل المباشرة والخلفية سالكة تقريبا، وليس من داع للهلع، أو محاصرة المقاطعة، أو عرقلة تحركات الشخصيات المهمة، أو قطع شرايين الحياة عن السلطة.
لم تظهر الرسمية الفلسطينية غاضبة في هذا الموسم، بل تبدو عاجزة ويائسة ومنهكة أكثر من أي وقت مضى، ولعل ما يشغلها هو احتواء أزمات داخلية تستدعي ترتيبات هيكلية في المواقع والمناصب ضمن مؤسسات محنّطة، وتأتي الخطابات السنوية فوق منصة الأمم فرصة لإدراك الترهل المتزايد.
للشعارات الدعائية عمرها الافتراضي على أي حال، فقد خبت سابقاتها جميعا، وتلاشت استحقاقات الدولة والاستقلال، فمن يرغب بابتلاع الوهم مرة أخرى؟ المؤكد أنّ الإرادة الرسمية لم تنعقد على حمل قنبلة؛ وأنّ الإقدام على ذلك له إرهاصاته ومقدماته التي لا يظهر أي منها للعيان .. ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدّة.