الهجرة قبل أن تكون تأشيرة سفر و ترحالاً إلى البلاد البعيدة هي في جوهرها النفسي مغادرة لمواقع السكون والراحة وإلف الأشياء مع ما يقتضيه ذلك من مجاهدة شاقة لرغبات النفس الطبيعية في الاستقرار والركون: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون".
استشعرت المعنى النفسي للهجرة في اليوم الأول الذي أرسلت فيه طفلي إلى الروضة، كنت أقاوم ميلي الطبيعي في إبقائه قريباً مني وكان يحزنني أن يذهب بعيداً مني وإن كان هذا البعد لا يتجاوز بضع مئات من الأمتار ولا يزيد عن بضع ساعات في اليوم، تماماً كما كان أحزن يعقوب أن يبتعد يوسف عنه، هنا تفرض الموازنة نفسها بين عواطفنا وبين التقدير العقلاني الذي يستجيب لسنة الحياة، إذ إن الطفل لن ينمو نمواً طبيعياً إلا بمغادرة حضن والديه والابتعاد عن البيت تدريجياً بدءً بالروضة ثم المدرسة ثم الجامعة وربما بعد ذلك مغادرة البلاد إلى حيث تقوده أمواج الحياة المتلاطمة والبحث عن الرزق والكرامة.
حياتنا سلسلة من الهجرات المتتابعة، فدخول المدرسة هجرة إذ يخرج الطفل من بيته ودائرة علاقاته الضيقة ليقابل وجوهاً جديدةً لم يألف التعامل معها من قبل، والحياة الجامعية هجرة، وتغيير نمط الحياة هجرة، والانتقال من مكان العمل هجرة، والانتقال من السكن ودائرة الأصدقاء والجيران هجرة، وخروج الابن من بيت والديه للسفر أو الزواج أو الاستقلال هجرة لهما كما أنها هجرة له، وموت الحبيب هجرة، و مع كل ظروف جديدة تفرضها الحياة على الإنسان يسيطر عليه شعور الاغتراب ويبحث عن ركن شديد يأوي إليه، ويحتاج حيناً من الوقت لتصبح هذه الأوضاع جزءً من كينونته النفسية، وما إن يشعر بالإلف تجاه الأوضاع الجديدة حتى تفرض الحياة عليه تحديات أخرى تقتضي منه هجرةً جديدةً، فلا مكان للاستقرار والطمأنية في حياة قانونها التغير الدائم فلا يطمئن إليها إلا غافل: "إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ".
إن تعبير القرآن في بداية سورة الأنفال عميق في دلالته، فالبيت ترميز لحالة الاستقرار والسكون التي يحبها الإنسان، والخروج من البيت ثقيل على كل نفس بما في ذلك نفوس المؤمنين، والإنسان بطبيعته يود أن غير ذات الشوكة تكون له، فهو يبحث دائماً عن الراحة والخيارات السهلة، لكن نمو الحياة يقتضي الحركة والفعل الإيجابي والخروج من البيت أي الخروج من الاستقرار إلى الحركة والجهاد.
تنطلق فلسفة القرآن من أن هذه الحياة دار ممر لا دار مستقر فهي تقتضي مجاهدات دائمةً وانتصاراً متجدداً على رغبات النفس، كما تنطلق من مركزية الإنسان لا مركزية الأوطان، فالقرآن يخاطب الإنسان في رسالة عالمية متجاوزة للحدود والأقطار، وهو لا يعبأ كثيراً بمكان تواجد هذا الإنسان، لكنه يهتم بتزكيته وتحريره من أغلال العبودية والمهانة، لذلك لا صنمية للوطن في الرؤية القرآنية، فوطن الإنسان حيث كرامته، وبقاء الإنسان في الوطن مشروط بعدم افتتانه عن دينه، فإذا وجد أن دينه مهدد وأنه ضعيف عن الثبات في مواجهة البطش والظلم، فإن القرآن لا يسمح له بالهجرة وحسب، بل يفرض عليه هذه الهجرة ويتوعده بالعقاب إن آثر القبول بالظلم والاستعباد في وطنه على الهجرة إلى حيث حريته وكرامته: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَ?ئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"..
والحرية ليست مسألة ثانويةً في التصور الديني، بل هي الأساس الطبيعي لإقامة الدين، إذ لا يعبد الله حق عبادته إلا من أطعم من جوع وأمن من خوف، لذلك حين يقال إن الهجرة المعتبرة في القرآن هي التي تكون في سبيل الله فهي مقولة بحاجة إلى توسيع معناها، فهذا لا يعني أن بلاد الدكتاتوريات التي يستطيع فيها المرء أن يصلي ويصوم قد غدت جنة الله الموعودة في الأرض، بل إن عيش المرء في خوف على نفسه وعلى أبنائه وتوجسه من الجهر بكلمة الحق كيلا يغضب الحكام، وارتباط أمانه الوظيفي بطاعته العمياء لأصحاب السلطة والمال، كل هذه أخطار تهدد دينه وتفتنه، إذ إن الله تعالى لا يريد لأحدنا أن يصلي ويصوم له وقد توزعت ولاءات قلبه بين سلطان غاشم يخشى سوطه وبين رزق يخشى انقطاعه، فهذا هو الشرك الذي يحبط العمل كله، بل إن الله تعالى يريد من يعبده وقد توحدت نفسه ابتغاء وجهه، وهذا لا يكون إلا ممن حرر لقمة عيشه من سطوة الظالمين وضمن حريته في التفكير والتعبير دون أن يفتنه أحد إذا تكلم بما يؤمن به.
الهجرة هي سنة الأحرار لا شأن العبيد، لقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد أخرج الأنبياء من ديارهم، الهجرة تحتوي على متاعب يسببها مغادرة مراتع الصبا والشعور بالغربة والوحدة، لكن الأحرار يؤثرون هذه المتاعب في سبيل الكرامة والشعور بالاكتمال الإنساني، وبعد ذلك فإن الهجرة تفتح أبواب الخير وتوسع آفاق الفكر: "وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً".
الهجرة تحقق معنى التعارف الإنساني: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"، وهي تزيد الحضارة الإنسانية ثراءً عبر تلاقي الثقافات وتبادل الخبرات، والمهاجر حين يسير في الأرض بقلب مفتوح فإنه يعلم أن الحياة أوسع من حدود بلده الصغير، ويكتسب قيم التسامح وقبول الآخر ويتواضع عن ادعاء امتلاك الحقيقة الحصرية ويبصر زوايا متعددةً تعينه على فهم الحياة.
عبر التاريخ كانت الشعوب في حركة هجرة دائمة من الأطراف إلى المركز بحثاً عن الكلأ والماء والأمن والعيش الرغيد، وبهذه الطريقة انتشر الناس في أرجاء الأرض وتداخلت الأصول العرقية بين الأمم فلا تكاد تجد شعباً خلت أصوله من الاختلاط مع أصول الشعوب الأخرى، لذلك فالهجرة هي الوضع الطبيعي في العلاقات بين الأمم والشعوب، لكن واقع الظلم خيل لنا بأن الأصل أن تظل الشعوب في أقفاص محكمة الإغلاق مقطوعة الصلة عن ارتباطها الإنساني، كما يحدث في قطاع غزة الذي يحرم سكانه من أبسط حقوقهم في حرية الحركة وتنشئ دولة الفرعون على حدوده خندقاً مائياً وجداراً فولاذياً إمعاناً في خنق أنفاس أهله.
إن قانون التاريخ أن تحيا أمم وتموت أخرى، فإذا ماتت أمة انعدمت فيها شروط الحياة الإنسانية وتعاظم فيها الظلم والفساد واستعصت على أي إصلاح، فخرج الناس منها أفواجاً فراراً من الموت وبحثاً عن حياة جديدة وبقيت البلاد ساحةً للدمار و الخراب يقيم فيها الطغاة عروشهم على جبال من الجماجم والأحجار..
لست متأكداً إن كان من الحكمة أن أدعو الناس في بلد مثل سوريا إلى الهجرة فأتحمل إثم ترك بلادهم لروسيا وإيران وجنودهما، أم أدعوهم إلى البقاء فأتحمل إثم موتهم فيها، لكن الحمد لله أنهم لم ينتظروا أحداً ليشير عليهم ماذا يفعلون، فقد رأينا ملايين السوريين يخرجون من بلادهم فعلمنا أنها لم تعد بلداً صالحاً للإقامة الآدمية، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً.
إن قانون التاريخ أقوى من كل نظرياتنا وتقديراتنا ..