كتب إبراهيم العريس: في حوار أجراه معه كاتب هذه السطور لصحيفة "الحياة" ونشرته قبل سنوات قليلة من رحيله، روى لنا "المستعرب" الفرنسي الكبير جاك بيرك، أنه كان يستضيف ذات مرة صحفيا فرنسيا أراد أن يحاوره حول دوافع اهتمامه بتاريخ
العرب والمسلمين.
يومها "على سبيل الجواب العملي، قال لنا بيرك، أشرت بيدي إلى مجموعة من الكتب ذات الأغلفة الجميلة الموشاة بالذهب وقلت لمحدّثي: هل ترى هذه الكتب؟ إنها تكاد وحدها تجيبك على سؤالك. فحضارة تنتج قبل ألف عام هذه الموسوعة، حضارة يجدر الأمر بأي عالم أن ينفق حياته دارسا إياها".
وإذ روى بيرك هذه الحكاية، أضاف مبتسما: "كانت المجموعة تتألف من مجلدات موسوعة الأغاني لأبي الفرج
الأصفهاني التي كنت أشتغل على ترجمتها الى الفرنسية في ذلك الحين".
- يعدّ كتاب "الأغاني" الذي كان يثير حماسة ذلك العالم الفرنسي الكبير، وفي الحسابات كافة، واحدا من أشهر الكتب في التراث العربي الإسلامي. بل يمكن القول إنه كتاب فريد من نوعه في آداب العالم كافة، إذ نعرف أن مكتبات العالم حتى نهاية القرن التاسع عشر على الأقل، قد خلت من أي مصنف من هذا النوع، يقدم شعراء زمنه والأزمان التي سبقته، ويقدم المغنين رابطا بين الفئتين، بحيث يبدو
الشعر والغناء كما كان يجدر بهما أن يكونا منذ البداية، فنين في بوتقة واحدة، إلى جانب أنهما يتواكبان في شكل نادر المثال مع الموسيقى التي كانت تشكل جزءا أساسيا من تلك اللعبة الإبداعية الفكرية.
- اذا، فكتاب "الأغاني"، الذي يقع في نحو خمسة وعشرين جزءا، إلى الفهارس العامة التي تشغل ما لا يقل عن جزءين، الذي يشغل ألوف الصفحات، هو عبارة عن موسوعة عن الشعر العربي وعن
الغناء والموسيقى العربيين كما كان حالها خلال الزمن الفاصل بين بدايات تدوين هذا الشعر وتأليفه في أول عصور الجاهلية، وحتى الزمن الذي عاش فيه الأصفهاني وكتب موسوعته.
فهو إذا، وكما يقول بعض محققيه المحدثين "كتاب موسيقى وكتاب غناء وطرب، فقد ترجم مؤلفه لأكثر المغنين المشهورين في صدر الإسلام والدولتين: الأموية والعباسية، من أمثال ابن محرز وابن سريح والغريض والأبجر والهذلي، والموصلي ومعبد ودنانير وحبابة وعريب وعزة.
وترجم لأكثر المغنين من الحكام، أمثال الواثق والمنتصر والمعتز والمعتمد وغيرهم. وجمع الأغاني العربية قديمها وحديثها، وانفرد بذكر الغناء العربي وقواعده، وآلات الطرب والموسيقى التي كانت مستعملة وشائعة في أزهى العصور الإسلامية مثل الأرغن الرومي والدف والطبل والطنبور والعود والناي والبربط والرباب.
هذا دون أن ننسى ترجمته في طرقه لمئات الشعراء راويا حكايات حياتهم وطرائفهم وصراعاتهم مع مجتمعاتهم كما صراعاتهم بين بعضهم البعض.
ويضيف الباحثون الكثر الذين أرخوا لهذا العمل الكبير أو درسوه أو حاكوه في مؤلفات لاحقة، أن أبا الفرج بنى كتابه من الناحية الموسيقية الخالصة على مئة صوت كان هارون الرشيد أمر إبراهيم الموصلي مغنيه أن يختارها له، وزاد عليها بعض أصوات أخرى.
فكان يذكر الصوت وتوقيعه، ويذكر قائله ويترجم له، ويستطرد من ذلك إلى غيره من الشعراء والأدباء والمغنين والمغنيات. وهو "في كل ذلك يتغلب بين جد وهزل وآثار وأخبار وسير وأشعار متصلة بتاريخ العرب وملوكهم" حتى كان كتابه، على حد قول ابن خلدون "ديوان العرب"، كما جاء في مقدمة واحدة من أحدث طبعات "الأغاني" وهي تلك التي صدرت في حلة معاصرة أنيقة عن "دار الكتب العلمية" في بيروت قبل أعوام.
- في اختصار، يمكن القول إن كتاب "الأغاني" موسوعة شعرية غنائية تختصر، في شكل من الأشكال، تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، حتى الزمان الذي عاش فيه الأصفهاني وكتب، طالما أننا نعرف أن كل ما حدث في واقع تلك الحضارة ومسارها كما في وعي مفكريها، كان يتجلى في نهاية الأمر شعرا وغناء.
ومع هذا فإن "ديوان العرب" هذا الذي يراه كثر من المؤرخين -الأجانب خصوصا- كتاب حضارة العرب الرئيس -إن جاز لنا القول- بقي غير معروف تماما، وغير داخل في الوعي العربي، حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حين كان أول ظهور له سفرا مطبوعا، وبدأ العلماء من قراء العربية تداوله. بل حتى في ذلك الحين، اقتصر الأمر على جزئه الأول. إذ إن هذا الجزء طبع في مدينة جوبييز فولد في العام 1840 مع ترجمة إلى اللاتينية أنجزها المستشرق روزغارتن الذي ضبط الكلمات في شكل كامل.
لكن ذلك الجزء كان يتوقف فقد عند أخبار "ابن محرز ونسبه"... وهذا الكتاب، إذ طبع على ذلك الشكل ظل -على أي حال- غير معروف إلا للخاصة والعلماء. وهكذا احتاج الأمر إلى انتظار أكثر من ربع قرن، أي الى العام 1868، قبل أن يعاد اكتشاف كتاب "الأغاني" كله، إذ اكتشفت بقية أجزائه.
وطبع في طبعة كاملة في مطبعة "بولاق" القاهرية، وأكمل المستشرق رودلف برونو تحقيقه لاحقا، اذ أنجز جزءه الحادي والعشرين والأخير في العام 1888.
وهكذا بتضافر جهود المستشرقين وجهود مطبعة بولاق، تمكن القراء العرب وللمرة الأولى من حيازة هذه الموسوعة الشعرية الفنية التي لا مثيل لها في العالم.
- أما مؤلفه أبو الفرج الأصفهاني، فإن شهرته طبقت إثر ذلك كله الآفاق، وبدأت مسيرة حياته تُستحضر مع ازدياد شهرة كتابه. وفي وقت كان كثر يعتقدون بأن كتاب "الأغاني" هو عمله الوحيد، تبين أن الرجل، على رغم انفاقه عشرات السنين من عمره في تصنيف "الأغاني" وجمع مواده وتحليلها، تمكن أيضا من تأليف نحو ستة وثلاثين كتابا وتصنيفها، منها ما هو موسوعي، ومنها ما هو تحليلي وتاريخي وشعري.
وتميزت كتابته في معظم تلك الكتب بحس نقدي ربما كان في إمكاننا أن نستخلص حدته من خلال عنوان واحد من هذه الكتب وهو "كتاب الفرق والمعيار بين الأوغاد والأحرار". ذلك أن الأصفهاني لم يكن مجرد باحث عالم، بل كان أيضا رجل فكر وأيديولوجيا.
ولعل التنوخي المؤرخ كان الأقدر على التعبير عن ذلك، إذ كتب عن الأصفهاني يقول، في لهجة ذات دلالة: "ومن المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصفهاني، كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخرى منها اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئا كثيرا، مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطب والنجوم والأتربة وغير ذلك. وله شعر يجمع اتقان العلماء وإحسان الظرفاء الشعراء".
وإن ما يهمنا في هذا السياق، من هذا الكلام هو العبارة الأولى التي، اذ يشدد عليها التنوخي، تضع الأصفهاني في موقع أيديولوجي لتذكرنا بأن من بين ما كتب، نصوص صراع فكري وسياسي لعل من أبرزها الكتاب المرجع "مقاتل الطالبيين" أي أبناء آل طالب.
ومع هذا فإن هذا البعد الأيديولوجي يبدو غائبا تماما عن "الأغاني".
- والأصفهاني، أبو الفرج، هو علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم المرواني الأموي القرشي: "من ائمة الأدب الأعلام في معرفة التاريخ والانساب والسير والمغازي"، بحسب تعريف كتاب "الأعلام" لخير الدين الزركلي، الذي يذكر أنه ولد في أصفهان (في العام 284هـ - 897م) وتوفي في بغداد (في العام 386هـ - 967م.) ويضيف نقلا عن الذهبي "العجيب أنه أموي شيعي".
ويقول الزركلي إن الأصفهاني كان يبعث بتصانيفه سرا إلى صاحب الأندلس الأموي فيأتيه إنعامه. وعن هذا الأمر يقول ابن خلكان في "وفيات الأعيان": وحصل له -أي الأصفهاني- في بلاد الأندلس كتب صنفها لبني أمية ملوك الاندلس يومذاك وسيّرها سرا، وجاءه الانعام منهم سرا.
فمن ذلك كتاب "نسب بني عبد شمس" وكتاب "أيام العرب: الف وسبعمئة يوم"، وكتاب "التعديل والانتصاف في مآثر العرب ومثالبها" وكتاب "جمهرة النسب" وما إلى ذلك.
(عن صحيفة الحياة اللندنية 23 أيلول/ سبتمبر 2015)