لا تكاد تخلو حركة أو جماعة إسلامية منظمة من أنماط إدارية معقدة وهياكل بيروقراطية عتيقة، وبخلاف تيارات "المشايخ" وتيارات المحاضرات الدعوية، فأغلب الحركات الإسلامية الفاعلة سياسيا تمتلك هياكل مثل التي ذكرنا، ومع مرور الوقت تتحول هذه الأنظمة الإدارية والهياكل إلى هدف "تشغيلي" مجرد، بمعنى أن الحركة تسعى في أقصى أهدافها للحفاظ على تشغيل مستمر للهيكل التنظيمي وهو نفس الأمر لدى الحكومات التي تمتلك بيروقراطيات عتيقة.
مع مرور الوقت تتعايش الجماعات مع مواقعها داخل المجتمع ولا تحاول فرض تحولات حقيقية بداخلها، تحاول إدارة "البقاء" أمام الخصم والحفاظ على معادلة التشغيل، وبالتالي تكون الأولوية في هذه الحركات للأشخاص الذين ينجحون بيروقراطيا من خلال مواقعهم "التشغيلية"، فمسؤولو الملفات والقطاعات الذين يحسنون لغة الأرقام الدعوية "عدد العاملين - عدد المحبين - عدد المريدين - عدد الأسر - عدد الفعاليات" دون سبر كبير للمضمون، يتحولون مع الوقت إلى قيادات حقيقية وليسوا مجرد تشغيليين متميزين.
ومع غياب أي مستوى تشغيلي في الكيانات مهمته "العناية بالأفكار" الموجِهَة لهذا الجسد التشغيلي، وعدم تطوير نمط مراقبة يدرس دوما مدى توافق المسار التشغيلي مع مسار الأفكار ومآلاتها وأهدافها الكبرى، تتحول الكيانات مع الوقت إلى تقاسم صفات مشتركة بينها وبين الأنظمة العربية من حيث هدف "الاستقرار لأجل الاستقرار فقط".
وبالتالي، فإنه يحدث ضمور كبير لمكانة التفكير والعقل والإنتاج الفكري في هذه الكيانات أمام أولوية "التشغيل" والاستمرار فيه، إلا أنه في وقت الأزمات تصطدم الحركات ببيئة لا يحقق فيها النمط التشغيلي كفاءة، فهو ابن مرحلة الاستقرار المملة وليس محله الحروب والصراعات الكبرى والتغيرات السريعة، وعليه تفقد الكيانات القدرة على مواجهة المستجدات بطرق من شأنها إدارة الأزمات الكبرى، ففي هذه المراحل تهتز ثقة الناس بالكيانات وتتعالى صيغ الأفكار، فتقوم الأفكار والرؤى في هذه المراحل بإعادة إنتاج المستوى التشغيلي بما يتوافق مع المرحلة الجديدة.
ولكنه مع أولوية التشغيل في أزمنة الاستقرار وتجريف أي محاولة فكرية من شأنها فرض حالة من التغيير على هذا الاستقرار، تجد الكيانات نفسها أمام حالة عجز كاملة أمام المستجدات فلا هي تملك سياقات استراتيجية أو فكرية قامت ببنائها في أوقات سابقة، ولا هي تمتلك عقليات نوعية تستطيع إدارة المرحلة بدون "عقدة" التشغيل القديمة والروتينية.
وبالتالي تهرب الكيانات من أزمة كهذه بالعودة إلى مفهوم التشغيل مجددا، فالفعاليات "الثورية" هي في الأساس تدار بمنطق العدد، فالمسؤول كل ما يشغل باله هو كم مسيرة؟ وكم مشارك؟ وكم فعالية؟ ثم يقدم بها ملفا لمن هو أعلى منه، ويتكون لدى البيروقراطيين ملفات متضخمة من الأرقام مما يوحي بالتقدم، إلا أنها في الحقيقة كأرقام التنمية في الدول، حيث ترتفع الأرقام على الورق وتتزايد أمامها عمق الأزمة وتتسع الفجوة.
يتم الهروب من الفجوات لدى العقلية التشغيلية بمزيد من "الشغل"، ولهذا يتم مواجهة أي ناقد للواقع وأي محاولة للتوقف لإعادة النظر بمنطق "التشغيل" مجددا، كم مسيرة تشارك فيها يا أخ؟ كم شخص أقنعتهم بتأييدنا؟ كم أسرة حضرت؟ ماهي أخبار أوراد المحاسبة؟، وفورها يشعر الشخص الناقد بالتقصير من وجهة نظر "تشغيلية" فيعود مجددا مكسورا ظنا منه أنه مقصر!.
ولا تتوقف حالة الشبق التشغيلية مطلقا إلا في حالة الارتطام بجدار في طريق العملية التشغيلية أو حدوث حالة إنهاك كامل للآلة التشغيلية التي تعمل في الفراغ، وحينها فقط يتم طرح السؤال الاستراتيجي على استحياء، لكن ليس بمنطق التقصير أبدا ولكن لمحاولة تفادي النقد الفعال مجددا، ويكون العقل التشغيلي مجددا مقتنعا تمام الاقتناع أنه أدى ما عليه ولكن الواقع كان أكبر منه، فهو لا يتصور أن كل مجهوده كان في الفراغ، فهذا يتعارض وما كان يعقده من آلاف الفعاليات والأعمال التشغيلية.
نعم "المكنة" باللهجة
المصرية كانت تعمل.. لكنها "مطلعتش قماش"، لأنها كانت في الحقيقة تأكل نفسها أو تأكل الزمن كي لا تفيق على ما لم تكن مستعدة له من أسئلة، تم تجريف من كان بإمكانهم الإجابة عنها في الماضي.
ولكي تتجاوز الحركات الإسلامية هذه المعضلة التي تتسبب دوما في إعادة إنتاج الماضي في الحاضر والمستقبل، يجب أن تهتم بالعملية العقلية، وبموقع الأفكار من الجسد التشغيلي نفسه، ولا توكل مهمة التفكير للتشغيليين والتنفيذيين، فهؤلاء لن يروا أبعد من الأرقام والنتائج المرحلية، ولابد من الاهتمام بشكل رئيسي بصيانة الأفكار المؤسسة للحركة ومراجعتها مع الوقت ومعرفة مدى اقتراب الحركة أو ابتعادها عنها، وإلا فليس أمام مثل هذه الحركات في المستقبل موقع أو مكانة إلا ما حملته لها الصدف والأقدار الإلهية، وفي ظني أقدار الرب لا تحابي من كان ضعفه من تقصيره.