"واجبٌ على كل حكيمٍ أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يُبيّن أسباب الأمور ويُمهّد لعواقبها. فإنما حُمدت العلماء بحسن التثبّت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ماتجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها. وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم. فأما معرفة الأمور عند تكشّفها وما يظهر من خفياتها فذاك أمرٌ يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون"...
صدقت يا أباعثمان الجاحظ، فقبل بزوغ شمس الإسلام على أرض العرب، لم يكن لهم شأنٌ يُذكر بين الأمم، حيث لم تجمعهم دولة كبرى على غرار امبراطوريات الفرس والروم وغيرهما، وإنما كان حكما عشائريّا، يصطبغ بروح العصبية القبلية، لذا كانت فارس والروم، تكِلان شؤون القبائل العربية لملوك (عرب) يدينون لهما بالولاء.
وعندما أقيمت الدولة الإسلامية الأولى، لم يجد المسلمون أمامهم خلفية حضارية يعوّلون عليها ويستمدون منها دفعة لإقامة حضارتهم وصناعة نهضتهم، لكنهم كانوا على قناعة من أن ذلك المنهاج الرباني القويم الذي أنعم الله به عليهم، كفيل بأن يمكنهم من قفزة حضارية واسعة.
* يقول الدكتور راغب السرجاني في كتابه "ماذا قدم المسلمون للعالم":
"تاريخ العرب قبل الإسلام لا يشير بأي صورة من الصور أنهم سيصبحون قادة العالم، ومؤسسي أعرق حضارات الدنيا، ولا يوجد أي مبرر منطقي لتفوقهم وإبداعهم إلا تمسكهم بالإسلام وقواعده وهو ما انتبه إليه الفاروق عمر فقال: إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، ومهمها ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".
* فهذا المنهج الرباني يدفع في اتجاه إقامة علاقة قوية بين المسلم ومجتمعه وبيئته، ويتكفل منهجه الشمولي بتقديم أدوات صناعة النهضة، ورسم معالم الطريق تجاه الرقي والتقدم، وبيان سبل التعاطي مع المستجدات.
وانطلاقا من هذه الحقائق، كان المسلمون الأوائل يستشرفون المستقبل ويخططون له، وكثيرا ما نقرأ في الآثار الواردة والتراث الإسلامي الاهتمام بأحاديث المستقبل، وذلك على مدى قرون مضت في نهر الحضارة الإسلامية، حتى أن ابن خلدون رائد علم الاجتماع، وهو العلم الذي أسماه بـ "علم العمران" كان ينشد من خلال وضع أسس هذا العلم استشراف المستقبل من خلال التأمل في التاريخ، لذا اشتهرت لدى المفكرين وعلماء الاجتماع عبارة "التاريخ يعيد نفسه".
* في الواقع الإسلامي المعاصر، ثمة إشكالية كبرى في نظرة المسلمين إلى تاريخهم وتراثهم، فمنذ أن دبّ الوهن في الدولة العثمانية التي كانت راية جامعة للمسلمين، وخضعت الأمة لمؤامرات التقسيم والتفتيت، وتوالى ظهور الحركات والنعرات المعاصرة الهدامة، وذابت هوية المسلمين أو كادت، بدأ المسلمون يقفون عند تاريخهم المجيد، وحضارتهم التليدة.
يكمن الخلل في تلك النظرة، أن وقوف المسلمين عند تاريخهم أصبح مهربا من الواقع وسلوانا في أجواء المحن، يكتفون به عن النظر إلى المستقبل.
ولعل هذه النظرة قد انسحبت على بعض الباحثين والمهتمين بالشأن التاريخي، فغاصوا في التاريخ سردا وتحليلا، دون الربط بينه وبين المستقبل، وامتد ذلك إلى المناهج التعليمية، ليستقر في وجدان الدارسين أن القراءة في التاريخ ليست سوى متعة وإشباعا للشغف بعبق الماضي.
ولذا افتقد المسلمون ثقافة التخطيط للمستقبل في شتى مناحي الحياة، ما بين مسلم دبّ فيه اليأس من إصلاح الحاضر فغدا لا يفكر في المستقبل، وبين مسلم تربى ونشأ على مفاهيم مغلوطة ترى أن المستقبل غيب لا ينبغي الاشتغال به، بينما تشكّل وعي وفهم البعض من خلال النصوص التي تحثّ على الزهد وعدم التعلق بالدنيا، دون التوفيق والدمج بينها وبين نصوصٍ أخرى تدعو إلى العمل الجاد والتخطيط للغد من أجل مستقبل أفضل.
فغفلوا عن أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين كان يدخر لأهله قوت سنة، وأن يوسف عليه السلام قد أرشد الناس إلى كيفية مواجهة شدائد المستقبل والتعامل مع أيام القحط والسنين العجاف المنتظرة.
* يقول المفكر الإسلامي الدكتور محمد العَبْده في إحدى رسائل دروب النهضة: "ليس المستقبل عالم الأحلام البعيد، بل هو مستقبل الحاضر وتطوره، وإن المسلم الذي يثق بوعد الله، ويملك القيم الثابتة والتفاؤل الكبير، يتهيأ ليكون صاحب شأن وتأثير في معارك الحياة، فلا ينبغي له أن يكون خارج المتغيرات والتحولات العالمية، بل يرقبها مراقبة الذي يعرف ما يدور حوله، وما يجري من أحداث كبار".
* لستُ أستهدف من هذا التناول صناع القرار وأولي الحكم والسلطة، فهو أمر عسير المنال في الوقت الحالي، ولن يبدأ من قمة الهرم ورأس الجسد، إنما ثقافة التخطيط للمستقبل والعناية به، تبدأ من حيث القاعدة العريضة، من حيث الفرد والأسرة، من حيث مؤسسات المجتمع المدني، والكيانات الإصلاحية.
وقبل أن نقطع الخطوة، يلزم أولا التخلص من سيطرة الأوهام والضعف وسطوة الواقع المر، فليس عصرنا هذا وحده من شهدت فيه الأمة المحن والأزمات.
وأختم بمقولة المناضل علي عزت بيجوفيتش رحمه الله، تختصر عليّ وعليكم ما أودّ قوله:
"إن أفضل طريقة لمقاومة البرودة الخارجية هي أن يجري الدم في الداخل، الشجاعة تأتي من الداخل من القلب، نتحدث كثيرا عن الهزائم التي ألحقها بنا الآخرون، وحان الوقت لكي نبدأ بالحديث عن الهزائم والخسائر التي ألحقناها بأنفسنا".
9
شارك
التعليقات (9)
ابو احمد
الجمعة، 18-09-201503:38 م
انا هنا لاعلق علي مقالك عن فضائح محمد بن زايد واحب اقولك انتي فاسقه لانك قذفتي مسلمه محصنه واحب اقلك عزيزه جلال اشرف منك ومن اهلك
محمدفوزى الشريف
الإثنين، 14-09-201508:26 ص
من مدينة سفاجا احيى سيدة صاحبة الجلالة الكاتبة المتميزة احسان الفقية احس انكى سيدتى تكتبى مانحن نريدة *ولكن اختلف معكى سيدتى فى شيئا"واحد هو ان الحاكم هو من يبدا بالتفكير والنهوض بمستقبل شعبة وليست القاعدةالعريضة انظرى سيدتى الى مهاتير محمد بماليزيا وكيف قرأ المستقبل لشعبة ونهض به *واخيرا"اتمنا لك كل خير وان يحسن اللة خاتمتنا
عاصم الغريب
الأحد، 13-09-201511:23 م
أحسن الله اليك ونفع بك وجعلك ذخرا للاسلام
وكما قيل..رب همة أحيت أمة
ولن يصلح أمر هذه الامة الا بما صلح به أولها...
والتخطيط للمستقبل واستشرافه من الفراسة...
مسلمة
الأحد، 13-09-201508:08 م
مقالة جميلة مختصرة و موضوعها مهم للغاية...حبذا الكتابة عن اهمية التخطيط والتمسك بالقيم والثوابت..والانطلاق للمستقبل بشخصيتنا وهويتنا الاسلامية المتميزة..بحيث نكون فاعلين ومؤثرين ومتحكمين ..نبني مستقبلنا بارادتنا وبشروطنا وبعزة المسلم الذي يعتز بالله
Amany
الأحد، 13-09-201506:08 م
ابداع فوق العادة .. صدقتي .. الاحلام لا تبنيس امما وطوق النجاه بالعودة الى الدين والدنيا معا بالعمل الجاد الكادح مع التخطيط السليم .. فتح الله عليك من خزائن علمه وفضلة وفائق الاحترام والتقدير للقلم الرائد الشريف المتقدم ..