حينما يتعلق الأمر بالتعليم، يبدو رئيس الوزراء مساندا على الأقل لبعض المؤسسات التعليمية التي كان لي علاقة بها، ولقد سرني أن أسمعه يذكر مدرسة الملك داود اليهودية الإبتدائية التي تعلمت فيها أيام طفولتي ويقول إنها كانت نموذجا طيبا للاندماج، وأنا أوافقه تماما على ذلك، فقد كانت مدرسة رائعة، وإن كنت لا أعلم ما سوف يكون عليه موقف الضابط المسلم الأعلى رتبة في شرطة بريطانيا إذ يسعى لتطبيق الإجراءات التي أمر بها
كاميرون لمكافحة التطرف مشيرا إلى أن العداء لأعياد الميلاد (الكريسماس) هو شكل من أشكال التطرف، فنحن في مدرسة الملك داود لم نحتفل بتاتا بأعياد الميلاد.
ما أكاد أجزم بأنه قد فات رئيس الوزراء بينما كان يتحدث عن فضائل الالتزام بمبدأ سيادة القانون، معتبرا ذلك قيمة بريطانية أساسية في الحرب ضد التطرف، هو أنه كان يتكلم في مدرسة يرتادها تلميذ طالما كان ضحية للانتهاكات المتعاقبة من قبل الحكومات البريطانية لمبدأ سيادة القانون، وما يمكن أن ينسب إليه من فضائل.
في خطابه الذي ألقاه في
المدرسة التي يتعلم فيها ابني، عاد كاميرون مجددا ليؤكد على أهمية أن يكون المرء جزءا من بريطانيا المتسامحة والجامعة والشاملة طبقا لمجموعة من القيم التي من شأنها أن تقوض التطرف.
بالطبع، الجدل حول موضوع القيم البريطانية ليس جديدا، فقد خلص استطلاع للرأي أجرته مؤسسة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في عام 2006 باعتبار الذكرى السنوية للتوقيع على وثيقة "الماغنا كارتا" أفضل تاريخ للاحتفال بالخاصية البريطانية، ولقد صادف الخامس عشر من حزيران/ يونيو هذا العام في الذكرى المئوية الثامنة للتوقيع على "الماغنا كارتا".
وكنت قد اصطحبت أحد أبنائي لرؤية معرض نظم حول هذا الموضوع في المكتبة البريطانية الأسبوع الماضي، حيث أنني ساهمت في إنتاج أحد الأعمال الفنية في المعرض. لم يبق من مواد الوثيقة مما يمكن أن يعتبر ذا علاقة بزمننا سوى ثلاثة بنود، وأشهرها على الإطلاق، البند رقم 39: لا يجوز القبض على رجل حر، أو سجنه، أو نزع ملكه، أو إخراجه من حماية القانون، أو نفيه، أو إيذاؤه بأي نوع من الإيذاء... إلا بناء على محاكمة قانونية أمام أقرانه (أي المساوين له في المدينة) أو بمقتضى قانون البلاد.
كان التاريخ مدهشا، وكان النفاق ملموسا
ولد ابني بينما كان أبوه مختطفا، ومسجونا دون وجه حق وبلا تهمة، ويتعرض للتعذيب في (قاعدة) باغرام (بأفغانستان) وفي (جزيرة) غوانتانامو (الكوبية) بوجود ضباط من جهازي المخابرات البريطانية إم آي6 و إم آي 6، ولم يتسن لي الالتقاء بولدي إلا بعد أن أفرج عني، وكان حينها قد أتم السنة الثالثة من عمره.
صحيح أن كاميرون كان قد أمر قبل ما يقرب من خمسة أعوام بإجراء تحقيق في مزاعم بحدوث تواطؤ بريطاني في التعذيب، إلا أنه لم ينجم عن ذلك أي محاسبة حكومية ولم يثمر التحقيق شيئاً ذا قيمة، وللحق نقول إنه بالرغم من أن الذين مارسوا التعذيب تمكنوا تارة أخرى من الإفلات من المحاسبة والعقاب إلا أن الولايات المتحدة كانت أكثر استعدادا من بريطانيا للاعتراف بأن عملاءها تورطوا في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
في العام الماضي تعرضت عائلة مرة أخرى للاضطهاد، وألقي بها خارج منزلها من قبل العشرات من ضباط الشرطة في قسم مكافحة
الإرهاب بحجة البحث عن دليل يبرر اعتقالي وسجني – هذه المرة بشكل قانوني – لمدة طويلة من الزمن. وفعلا، سجنت، ومنعت من الخروج بكفالة، وأصدرت وزيرة الداخلية أمرا بمصادرة جواز سفري، وأمرت وزارة المالية بتجميد حساباتي وكل ممتلكاتي، لأنني دعمت الثوار السوريين وزودتهم بمولد كهرباء، ومعدات تدريب رياضية قبل ظهور داعش بفترة طويلة.
حدث كل ذلك بينما كانت حكومة كاميرون في ذلك الوقت تدعم بشكل علني الثوار السوريين وتزودهم بمساعدات غير قتالية. وفي عام 2013، وإثر لجوء نظام الأسد إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، سعى كاميرون – ولكنه أخفق بشكل محرج جدا - إلى الحصول على موافقة البرلمان على شن هجمات جوية ضد النظام.
ولقد تجلت ازدواجية كاميرون بشكل صارخ حينما أعلن هذا الأسبوع عن أنه اتخذ قرارا بقصف أهداف لداعش في سوريا دون الحصول على موافقة مسبقة من البرلمان.
وبعد أن انتظرت المحاكمة لسبعة شهور وأنا معتقل في سجن تحت الحراسة المشددة على اعتبار أنني أشكل خطرا كبيرا على المجتمع، أمرت الشرطة بإطلاق سراحي وتبرئتي مما وجه إلي من تهم.
وكانت هذه هي الفترة التي بدأ فيها أطفالي إثر ترددهم على السجن لزيارتي يرون بأعينهم ماذا يعني أن تكون مسلما مستهدفا من قبل الدولة، ولم يكونوا من قبل، خاصة وأنا معتقل في غوانتانامو، يدركون معنى مفاهيم مثل الحرية والديمقراطية وسيادة القانون.
لقد علمت أطفالي منذ نعومة أظافرهم ألا يكنوا مشاعر الكراهية لمن يؤذيهم أو يؤذيني، بل أن يسعوا لإحقاق الحق وإقامة العدل ومحاسبة من يخطئ، متمسكين دوما بعقيدتهم وثوابت دينهم، بل لقد تعمدت، ورغم ما في ذلك من إيلام شديد، دعوة جنود أمريكان لزيارتي في بيتي ليلتقوا بأطفالي الذين حرموني رؤيتهم زمنا، وكان كل هدفي من وراء ذلك هو أن يروا بأم أعينهم من نحن وكيف نعيش.
الإيمان بالخلافة وبالجهاد وبالشريعة لا يحول الناس إلى متطرفين، وكان ينبغي على كاميرون أن يعرف ذلك قبل غيره و أن يعرفه أفضل مما يعرفه معظم الناس، وهو الذي دشن سندات التمويل الإسلامي قبل عامين وصرح حينها بأن بريطانيا باتت "واحدة من أعظم مراكز التمويل الإسلامي في العالم".
ولعله يفيد كاميرون أن يتذكر كلما مر بتمثال غاندي في طريقه إلى البرلمان أن غاندي أيد حركة الخلافة الإسلامية. وكانت كتيبة "ومضة النور" البريطانية التاريخية قد دعمت الخلافة العثمانية حماية لطرق التجارة البريطانية إلى الهند.
وقاتل جدي ووالده جنبا إلى جنب في صف واحد كجزء من الجيش الهندي البريطاني في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وسواء كانا محقين أو مخطئين، فقد قاتلا اعتقادا منهما أنهما كانا يمارسان الجهاد، وعمدت بريطانيا من بعد إلى دعم الجهاد ضد السوفيات وضد القذافي وحتى ضد الأسد.
لقد قرع كاميرون الاتحاد الوطني للطلبة لأنه أعرب عن مساندته لمنظمة "كايج" (القفص) التي ادعى أنها منظمة تلتمس الأعذار للإرهاب. مثل هذا التقييم الأشبه بتقارير الصحف الشعبوية لمنظمة هي الأقدر على تشخيص أسباب الشعور بالإقصاء في أوساط المسلمين واقتراح علاجات لها إنما يثبت عجز رئيس الوزراء عن التواصل مع المجتمع المسلم، كما أن إخفاقه في السماح لنا بالعمل في قضية ألان هينينغ أمر مؤسف جدا بل ومحزن حقا.
لا خلاف في أن داعش اختطفت الإسلام وفي أنها تمثل تهديدا وجوديا للعالم الإسلامي. ولكن كما قال كاميرون إن المسلمين الذين ينددون بداعش لا يقومون بما هو كاف، فإنه ليس من حقه أن يعيد تعريف ما هو الإسلام، بغض النظر عن عدد من يستحضرهم من الخدم والأتباع.
ولا أدل على القطيعة بينه وبين تيار الأغلبية المسلمة وجهله بآراء ومواقف هذا التيار من رفضه للنقد الذي وجهته له مؤسسة رمضان واعتبارها مؤسسة متطرفة نصبت نفسها متحدثة باسم الإسلام.
لا يمكن كسب الحرب ضد الإرهاب إذا استمرت حكومة كاميرون في ممارسة النفاق. ولكن بناء على ما شاهدناه حتى الآن، يمكن القول إن النفاق خاصية بريطانية بقدر ما أن الماغنا كارتا وثيقة بريطانية.
(عن ميديل إيست آي ،مترجم خصيصا لـ"
عربي21")