الثورة تائهة ولا تجد طريقا. والثوريون يخبطون خبط عشواء في ليل بهيم. هل كان يجب أن تبني الثورة خِطَّة قبل انطلاقها، أم أن الخطة تأتي كشهية الأكل أثناء الأكل؟ أيهما أسبق الخطة أم الإنجاز؟ سؤال سفسطائي يخفي سؤالا آخر، هل يوجد ثوار فعلا لإنجاز ثورة؟ لقد أخذ هذا النقاش نصف قرن، ولم يحل معضلته، وجاءت الثورة ساخرة من النقاش ومن المتمعشين منه.
ثورة بلا مشروع ثقافي
هل يمكن أن تحصل ثورة بلا مشروع ثقافي؟ يبدو أنه حصل أمر يشبه ذلك، فقد تجاوز الأميون المثقفين من بناة المشاريع الثقافية الكبرى محترفي صناعة الأفكار الجميلة. ولكن في الشوط الثاني عاد المثقفون ينتقمون بلطفهم. لن تذهبوا أيها الأميون بعيدا بدون ما يراه المثقفون. لا بد أن نفكر لكم. طيب تفضلوا، ما هي رؤيتكم لمستقبل شعوب رزحت تحت القهر والتسلط قرونا طويلة؟
يقول المثقفون: دعونا نفكر بعد. لنعد إلى البدايات. ماذا حصل في بدء التاريخ؟ من هناك يكون البناء. هل كان آدم وحواء حقيقة؟ ولكن الجمهور الأمي يقول نحن في آخر التاريخ، ونريد أن نحمي بلدتنا من الغزو، ونمد فيها طرقا وسككا، ونغرس شجرا كثير، ونشبع البطون الجائعة. تلك مطالب الجياع ونحن نخبة.
انتهى المشروع المشترك بين من يمكن تصنيفهم قوى وطنية تتقاسم الأدوار في مشروع تحقيق أهداف ثورة تطالب بالحرية في الداخل والاستقلال عن الخارج. لقد خسر الجميع الرهان.
رؤية العالم من موقع الذِّلة.
المشروع الثقافي القائم على تدعيم الاستقلال والسيادة عبر بناء منوال تنمية اجتماعي يفك الارتباط تدريجيا بالاقتصاد المعولم العابر للسيادات الوطنية، بوضع تصورات علمية وفنية تدخل في أذهان الناس أن العالم مبني على الحق لا على القوة الغاشمة.
هذا المشروع التحريري لم ينْبَنِ؛ لأن النخبة تخافه قبل السلطة التي أسقطت وعادت، وقبل الشعب الكريم المحتاج إلى النخبة تفكر له. هو المشروع الذي يجبر المثقفين على التفكير وإعادة بناء التصورات العامة القيادية (لوحة التحكم الثقافي)؛ لأن أي تصور جديد سيعيد النظر في موقعهم الحالي ومكاسبهم الحاصلة، التي يمكن أن يهددها ظهور نخب جديدة غير محافظة، وتكافح من أجل مكانتها وأدوارها ضمن مشروع مختلف.
ولذلك كان من الطبيعي أن تتم قرصنة مشروع إصلاح التعليم في تونس من طرف النخبة ذاتها المستفيدة من الوضع الراهن، وأن يختفي تماما كل حديث عن إصلاح التعليم العالي (كهف النخب الجامعية ذات الراتب العالي والكسل اللذيذ).
ماذا كان المطلوب ثوريا؟
مشروع إعادة بناء صورة للعالم يمتح من التاريخ العريق في غير تقديس غبي يتغاضى عن الهنات الكثيرة. وقبول شروط
الديمقراطية الحق البناءة للدول القوية بسواعد أبنائها. والتسليم لفكرة الدولة الحديثة القائمة على المواطنة الحق تأصيل في غير انغلاق وانفتاح في غير ذوبان.
هكذا كان التفكير منذ قرنين، وكلما سنحت الفرصة للتجسيد العملي تنكمش النخبة على ما بين يديها من الحديث، وتقول بالإبقاء على المكتسب، فهو غاية المنى، ولم يكن المكتسب إلا مصالحها في السلطة ضمن التبعية الذليلة، أي إعادة إنتاج واقع المذلة. (وللعلم هذه النخبة في اغلبها يسارية تقدمية فازت في الجامعة تدريسا وإدارة في غياب كلي لمنافسها الإسلامي المغيّب في السجون والمنافي).
أجرى المثقفون ويجرون كل يوم المقارنة بين التجارب الوطنية منذ الاستقلال والتجارب الغربية المغرية بالنجاح والقوة، وكتبوا ما يفيد الوعي بالتغيير، ويمكن أن نعدد الآثار المكتوبة إلى ما لا نهاية ضمن كل التيارات. فالببليوغرافيا جزيلة ومغنية للتفكير، ولكن المرور إلى التجسيد يصطدم بالخوف من التغيير. ينظر المثقفون إلى التجارب الناجحة بجوارهم الآن في آسيا وأمريكا اللاتينية، ويكتبون ما يفيد إيمانهم بها ورغبتهم في الانتماء إلى هذه النماذج الناجحة، وهي أمثلة في متناول اليد الراغبة لكن.
الاستدراك يعذبهم. لأنه يفتح على الثمن المطلوب. إنه التغيير العميق المطلوب ثوريا وشعبيا. لكن التغيير يجُرُّ إلى تحريك السواكن ويرهق الفكر بالابتكار والتجديد. وفي كل تجديد يرون الخسارات ولا يرون الأرباح والفوائد. وهنا مقتل النخب. إنها تتحول إلى طبقات محافظة وجبانة.
في الفكر نجد الحديث عن التغيير وفي الممارسة يتحول إلى أمان عاجزة. ثم إلى غلاف للتبرير والتقوُّل على الشَّعْبِ الجاهل. لسان حالهم يقول في صمت مريب أيها الشعب أسقط السلطة القائمة وضعنا مكانها. لسان الشعب الأخرس يقوم بما عليه في عقد التغيير. يسقط السلطة وينتظر لكن المثقفين (النخب بكل تخصصاتها) تخل بقسطها من العقد. وتعيد إنتاج النظام.
هكذا كان عند الصدمة الأولى عند اكتشاف الغرب، وهكذا كان عند ما حرر الفقراء بلدانهم بدمائهم من الاستعمار المباشر، وهكذا أعيد إنتاج النكوص ذاتها بعد ثورات الربيع العربي. المثقف العربي ومهما كان لباسه الإيديولوجي هو مثقف محافظ. ولقد أثبت ذلك باقتدار عجيب.
الرضا بالمقسوم حل مريح
ماذا بقي الآن أمام الناس الذين خدعوا عن ثورتهم؟ الرضا بالمقسوم والفرح بالحد الأدنى. العقلية القدرية الخانعة التي رد بها المهمشون دوما على الخديعة الانسحاب والنواح على أطلال الأمل وفي أفضل الحلول التصوف الذليل والاستعانة بالغيب على البقاء على قيد الحياة. سيطورون كعادتهم في ضعفهم حلول التحايل على الفساد بقبول بعضه ورشوته بما تيسر للاستمرار ضمن الرقعة القديمة المتاحة، حيث لا حياة كالحياة ولا كرامة كالكرامة. الرقعة التي منحها المفسدون دوما لعبيدهم بلا قانون الاسترقاق.
سيقول الواقعيون كعادتهم ليس بالإمكان أفضل مما كان. فاللعبة لها أبعاد دولية والقوى المتحكمة ليست في متناول الفقراء ليفتكوا منها حقوقهم وهل من تبرير أشد سخفا من تبرير الذّلة والمسكنة. لماذا لم يقل المهمشون ذلك وهم ينتفضون ضد الطغاة ويسقطونهم ؟ لماذا مجَّدت النخب شجاعتهم وهم يتحدون بدمهم آلات الموت. كيف تستعيد النخب تبريرات الذلة بعد أن مكن لهم من السلطة؟
لم نخرج من عصر الانحطاط العربي بعد. لذلك فهذا المقال متشائم، ولا يوزع الأمل الكاذب على الناس. عصر الانحطاط كامن في رؤيتنا العربية للعالم. نحن لا نعيش المستقبل، بل نعيش في قصيدة طللية عذبة الإيقاع ومريحة ومدرة للدموع، بل إن العودة إلى التاريخ الجميل لم تعد تقنع الناس باعتناقها لكي يستريحوا في المجد القديم، لا الماضي مغر، ولا المستقبل يبنى، والتصوف كان حلا، وهو مفتوح دوما بصفته مهربا للآخرة من دنيا لم يعد فيها للفقير شروى نقير. تيه النخبة ضيع الثورة وكسر قلوب الفقراء.