قد أتاكم نبأ الدولة الفاشلة لكني مخبركم عن الدولة الفضيحة. فإذا تبرأ المرء من مداعبة الذات وتمجيد الغرور ونظر في قلب اللحظة الواقعية فسيرى تونس الآن دولة فضيحة لا ساتر لها إلا معجزة تقع في بلاد أخرى. ولما أن زمن المعجزات انتهى، فسنضطر إلى انتظار الانهيار الكامل للنهوض بجيل آخر لم يعش فضيحة هذا الجيل القاصر دون المجد والسؤدد.
حكومة الحلول المستنفدة
عاش التونسيون الأسبوع الأخير من شهر رمضان على وقع الفكرة التي نبأت في رأس رئيس الحكومة ببناء جدار عازل وخندق عميق على الحدود بين تونس وليبيا. وعم يشاهدون اليوم صور الجرافات تعمق الأخدود بين الأشقاء. يتذكر الجميع والضرورة حكمت جدار الفصل العنصري القائم على أرض فلسطين بين أصحاب الأرض والغزاة وتذكروا جدار برلين البغيض الذي قسم ألمانيا دهرا حتى سقط تحت ضربات الحرية ولكن تذكروا وقارنوا مرغمين بين السياج الذي أقامه الفاشي الطلياني على الحدود المصرية الليبية ذات غزو واحتلال. وقال قائلهم نحن الدولة الثانية في التاريخ التي تحاصر ليبيا بجدار عازل بدعوى منع تسلل الإرهابيين. وضحك الليبيون بمرارة مما يجري فهم ضحايا الإرهابيين التوانسة المتسللين إليهم لا منهم. وقال قائلهم قبل إكمال الجدار خذوا إرهابييكم الذين يفجرون أنفسهم في صفوف الليبيين. فتونس الآن صارت مصدرة للإرهاب لا مستقبلة له. وعيَّر كثير منهم التونسيين بالفساد المستشري في نقاط العبور القانوني فالشرطي التونسي وعون الجمارك عندهم يسمى (افرح بي) وهي العبارة المفتاح في طلب الرشوة للتغاضي عن العبور والتفتيش، مهما كانت حمولة السيارة.
الحكومة الفقيرة إلى الحلول الداخلية الفعالية تنظر في كراسات قديمة وتستنبط ما لا يليق بالمرحلة. لقد وقف الجميع على حقيقة العلاقة بين الإرهاب والفقر والتهميش الذي يخلق تربة خصبة يحسن استثمارها الإرهابيون. وليس أدل علي ذلك من الفوج البالغ 50 شخصا والذي عبر إلى ليبيا من مدينة رمادة الفقيرة دفعة واحدة للالتحاق فيما قيل لنا بداعش. رمادة وقرية ذهيبة الحدودية جزء منها هي التي عرفت أول تحرك احتجاجي على تعسير العبور إلى الارتزاق في ليبيا حيث مصدر عيشها الوحيد وقتل فيها شاب بريء لم تدفع ديته لأهله باعتباره مخربا، وضاع دمه فأنتج المزيد من الغضب والقهر (وهو نفس ما حدث في الفوار ودوز منطقة إنتاج البترول الذي يمر تحت أنوف الناس ولا يرون نتيجته). وفي الوقت الذي ينتظر الناس حلولا جذرية تقدم التنمية الاجتماعية على الأمنية يفيق الناس على خبر الجدار العازل، مما يمكن من أطروحة الانتقام السياسي من سكان الجنوب الذين صوتوا بكثافة للرئيس المرزوقي.
ولو عددنا الحلول المستنفذة لما كفتنا مساحة المقال ويكفي أن نشير إلى إغلاق وزير الشؤون الدينية الجامع الأعظم في وجه المتهجدين في العشر الأواخر بدعوى مقاومة الإرهاب لنتذكر كل حلول المخلوع العبقرية التي دفعت الناس إلى التدين الأقصى الذي يمول الإرهاب بخيرة عناصره الشابة.
دولة المعارضة الكسولة
المعارضة التونسية تسمع بالمعيدي خير من تراه. هي أحزاب كثيرة وزعماء لا يشق لهم غبار في الشاشات. إذا تكلموا أبهروا وأقنعوا وإذا حللوا وجدت عندهم صورة للواقع سليمة تؤدي نظريا إلى موقف سليم على الأرض. لكن على الأرض تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى. كل يصطاد في سلته على بؤس الصيد الذي يجمعون. قليل من الشباب المغرم بصوره السلفي في بعض الوقفات وكثير من الرغاء الفايسبوكي والتنابز وإعادة إنتاج المواقف الجاهزة الاديولوجي منها والسطحي غير ذي المضمون. مواقف انفعالية قاصرة لا تصل إلى حد بناء الكتلة التاريخية المنتظرة للقيام في وجه النظام الذي يعيد تشكيل صفوفه في هدوء ويتموقع حيث يريد بما يقطع الطريق على كل احتمالات هزّه من جديد. باءت كل مجهودات تشكيل هذه الكتلة بالفشل الذريع قبل الانتخابات وبعدها رغم الهزيمة النكراء ورغم التقديرات العليمة لما كان يمكن أن يحصل في صورة التوحد السياسي حول برنامج مرحلي على قاعدة تحقيق أهداف الثورة وفي مقدمتها قلع النظام القديم من جذوره في الإدارة والمؤسسات. لقد فرطت هذه المجموعات السياسية الميكروسكوبية في ما قدره 20 مقعدا في البرلمان معتقدة أنها كانت قادرة كل على حدة على قطف نتائج باهرة. ورغم ذلك لم تراجع تشتتها وتقدم نقدها الذاتي. وهي تسمع يوميا الكثير من المخلصين يدعونها إلى التكتل المرحلي ولكن يخيب ظن الطيبين وينعزلون أكثر وتتيه الساحة بلا قيادة وطنية. ولقد أكملت زيادة المرزوقي إلى غزة فضحهم إذ تبين أنهم لا يقدرون على الاجتماع حتى على قضية فلسطين بما أن هناك واحد من غيرهم يمكن أن يستفيد سياسيا من الزيارة المغامرة.
إنها معركة زعامات صغيرة وكسولة فكريا وفقيرة روحيا ومزايدة بحقارة على الثورة والشهداء.لا هم لها إلا مواقعها ومغانمها الفردية حتى إنها تمنع أنصارها القليلين من الاجتماع والتوحد وتبث الفرقة بينهم بجيوش من المرتزقة الافتراضيين ولذلك نرى التلاعن بينهم أكثر مما نراه موجها للنظام الفاسد الذي يراهم ويسخر كما كان دوما منذ عنّ لهم أم يكونوا معارضيه. كان يعرفهم ولذلك لم يقدرهم ولا يزال يراهم ويحتقرهم فيما هم يشتتون الجمهور اليائس خلف ثورة غدرتها النخبة قبل القوى الخارجية.
النهضة تخرج من جلدها خوفا وطمعا
حزب النهضة الإسلامي ينسلخ من هويته/جلده الإسلامي. تبدو الحركة سعيدة بالترحاب الذي تلقاه وسط النخب المالية الفاسدة. وتفرك كفيها على ما جنت من مغانم القبول بين طبقة رأس المال التي لم تنفك تبتز الدولة والمجتمع. وتجد من أنصارها من يبرر كل فعل مهما تدنى في عرف السياسة بدعوى الضغط الخارجي الذي ينفخ فيه ليصير المبرر الوحيد. كان الحزب وهو يعيد التشكل بعد الثورة قريبا من المحبطين والفقراء حتى أنه ظل يفتخر بقاعدة انتخابية ثابتة يناور بها. وكانت مؤشرات كثيرة تدل على أن القاعدة قابلة للتوسع والقوة وراء خطاب اجتماعي جذري ينصر المحتاجين ويقدم الحلول في ظل فقر الحكومات المتعاقبة على نصرة ذوي الحاجة في حاجتهم ولكن الحزب في مناوراته الأخيرة تحول بسرعة الضوء إلى حزب ليبرالي يعقد تحالفات مشبوهة مع رأس المال الفاسد لحفظ بقاء الحزب ولو بالتخلي عن كل العمق الاجتماعي للدعوة الدينية التي ألَّف قلوب الفقراء من حوله. الإسلام الاجتماعي المطلوب ثوريا وحضاريا انتهى من برنامج الحزب الإسلامي وانكشف الوجه العادي لحزب يريد فقط أن يحل محل حزب التجمع ويتمتع بالسلطة بنفس الأساليب التي حكم بها التجمع الناس.
استنزفت التبريرات وأعليَ شأن الإغراءات المقدمة للحزب الذي يطمع الآن في المشاركة في السلطة بلا برنامج غير المزيد من تحرير الاقتصاد ورهنه لقوى المال الدولية المتربصة بالثورة وفقرائها والتي تستعمل الإرهاب لمزيد من دفع القوى الوطنية للركوع الخانع.
إن القبول بين النخبة يتحقق للحزب وربما يستقطب من أوساط رجال المال ما يموله ويكفيه الإقصاء اليساري المتربص لكن الثمن الفظيع الذي يدفع لم يقدر بعد. لم تعد النهضة عند الكثيرين حزبا إسلاميا يناصر الفقراء والمهمشين ويحميهم بل حزب ليبرالي يصطنع طبقة فاسدة ضد طبقة محرومة ويقصي نفسه من الشارع ليجلس في مقاعد النخبة.
هي إذن، إذا جمعت فقر الحلول الرسمية وبؤس المعارضة بشقيها وغربة اليسار في مشروع الاستئصال الذي يرتد عليه. دولة فضيحة لا أحد فيها ينتمي إلى ثورة صنعته وأعطته رئتين للتنفس. هي دولة تعيد إنتاج فشلها المؤدي إلى التهلكة المتربصة، على الحدود. خصام نخبتها حول السلطة مؤذن بخراب نهائي ويفتح على المجهول السياسي. حين لا يمكن الحوقلة لأن الأوان قد فات على الاستدراك. ولقد كتبنا أن اللحظة تفتح على أحد مجهولين إما فوضى عارمة أو موت معلن. ومهما اختلفت الأسباب فالموت واحد.