نحتاج بعد إعلان حالة الطوارئ بتاريخ (4-07-2015) إلى برودة عقل وتبصر أو رصاصة في الرأس.
فالوضع لم يعد يحتمل كذبة أخرى. والنار التي ردمت حوّلت رمادها إلى جمر جديد. امتلأت بطون الفقراء من الكذب منذ سنوات طويلة، واستنفد السياسيون أسفار الكذب، حتى وصلوا نهاية مشوارهم فعسكروا البلد طامعين في تمديد وجودهم عبر معارك يختلقونها ويصبون عليها زيوت الفرقة، ويحسبون غنائمهم.
صفّان يتواجهان الآن في معركة وجود؛ صف الفقراء والمقصيين، وصف الذين اصطنعتهم السلطة واصطنعوها ولا يحتملون التفريط في الضرع الذي يدر عليهم ذهبا. نعم هما صفان ومنذ زمن طويل، لم تزدهما الانتفاضة الديسمبرية إلا وضوحا. واللحظة تطرح السؤال الوحيد: هل يمكن بعد إيجاد حل لهذه الفرقة الواضحة في جراب القائلين بالتوافق بديلا عن الاحتراب، وتزيين ذلك بالعبقرية التونسية التي لم نجد عليها دليلا في تحويل التوافق إلى منجزات تنموية، تلغي الفوارق وتوحّد الفرقاء ضمن مشروع وطني طرحته الانتفاضة قبل تفريغها من الأمل والرجاء؟
استنزاف التوافق المغشوش
لقد حصلت الانتفاضة (الثورة) ضمن سياق التفكير الذي ساد قبلها فلم يكن لها مشروعها الخاص في تجاوز الإشكاليات السائدة. لذلك تخلت عن المطلب الاجتماعي أو خدعت دونه وعادت بسرعة فائقة إلى معركة الثنائيات الهووية. "أصالة ضد حداثة" بما يعني على الأرض "إسلاميين ضد حداثيين من اليسار والليبراليين". وهي فرقة عملت كملاذ فكري هووي يحتمى به من النقاش الضروري والمصيري حول التعايش في ظل الاختلاف. وكان طبيعيا أن تتجه إلى العمل بوسائل النخب التي اعتادتها، وهي الهندسة الاجتماعية بالنص القانوني، أي وضع النصوص الموجهة للمجتمع طبقا لما تراه النخب.
"الدستور"، وهي العملية التي تسمح بحفظ امتيازات هذه النخب وتسمح خاصة بتأبيد الصراع الهووي الذي تابعناه حول الدستور. لقد كان صراعا وظيفيا تتعيش منه نخب كثيرة وجمعيات وولاءات لا علاقة لها بما كانت تطلبه الفئات الاجتماعية التي أطلقت انتفاضة ومهدت الطريق بلحمها ودمها.
لقد تمت إدارة الصراع بقاعدة ترحيل الاختلاف حتى يحل نفسه بنفسه نتيجة توازنات مؤقتة خلقها الزخم الثوري حتى انتخابات 2011. فلم ندخل في سياق الاحتراب الأهلي ولكن أفرغت الشرعية الانتخابية من قيمتها باسم التوافق (قانون الأغلبية الذي تقوم على الديمقراطية التمثيلية) وخلق المستفيدون إيديولوجية وظيفية للاستعمال الآني، سموها العبقرية التونسية، وتمت الاستعانة بأمثلة الحرب الأهلية الليبية والسورية لحقن الناس بقبول هذا الحد الأدنى، أن يذهبوا إلى صندوق الاقتراع ولا يحكم من انتخبوه. لم تتأسس دولة جديدة على أسس جديدة؛ لقد تم ترضية الجميع بأقل مما أراد كل واحد، وأكبرت العبقرية التونسية واستعين في ذلك ببعض المقالات في جرائد غربية تمتدح الحالة التونسية. لكن ذلك لم يكن إلا ترحيلا للمشكل الاجتماعي، حتى وصلنا صيف 2015. والنار الآن تستعر ويوشك أن يكون لها ضرام وهذا ليس تبشيرا بحرب، بل هو إنذار بأنه لم يعد في قوس الصبر منزع.
مؤشرات الاحتراب الأهلي
إحدى أهم مؤشرات الاحتراب الأهلي في تونس هي عدم التوحد ضد السرطان الإرهابي، إلى درجة الشك في أن هناك من يوجه هذا الإرهاب طبقا لأجندة داخلية تقوم على تأبيد الصراع الهووي نفسه والاستفادة منه سياسيا. وقد ظهر جليا أن الاستثمار في الإرهاب الداخلي يتم بشكل آلي عقب كل ضربة وضمن سياق الصراع الهووي؛ فضرب النزل ينتج عنه غلق مساجد وحل جمعيات خيرية وطرد الأئمة بتهمة بث الإرهاب. وهنا يستنزف التوافق القائم بين الحزب الإسلامي والأحزاب الليبرالية والذي أوشك أو أعطى انطباعا بأنه يمكن للتوافق أن ينتج حلولا دائمة تستبق الاحتراب وتلغيه. وتحت هذا الصراع الهووي تتسرب مطالب الطبقة التي ملكت المال والأعمال وابتزت الدولة.
فالتوافق الظاهر يتعرض لابتزازين؛ ابتزاز هووي يساري حداثي، وابتزاز برجوازي غنائمي يهدد بالخوف والفوضى ليفرض مطالبه الغنائمية بلهفة فاضحة. ويتكامل الطرفان في تفريغ احتمالات التوافق بما يدفع إلى مربع الاحتراب الأهلي بسرعة جنونية. وهو ما نراه ماثلا أمامنا في صيف 2015 وما يليه. يشبه الأمر سارقا يرسل كلبه ليزعج أهل البيت ويشاغلهم فيما يتفرغ هو لسرقة البيت.
مؤشرات الاستكانة الأخيرة
سأتحدث هنا عن موت السياسة في تونس والعودة إلى مربع الاستكانة والتسليم للمنظومة القديمة بمواصلة عملها. رغم ما قدر يظهر من تحركات شباب مستفز لتحريك الشارع، إلا أن ذلك يشبه حشرجة الميت قبل التسليم. لقد تم بث ما يكفي من الإحباط بما أفقد الكثيرين الأمل في مواصلة التغيير ضمن التوافق أو خارجه. وسيحسب هذا الكلام في التثبيط، لكن ذلك أفضل من ترويج الوهم بين المحبطين جِبِلّةً.
كم يتحمل السياسيون من إثم هذا الإحباط؟ الكثير، بل كل الإثم. إثم تضييع ثورة بكل آمالها. النخبة بكل تفريعاتها عملت على الحفاظ على المنظومة وراعت مصالحها الفئوية في وضع مستقر وفاسد على تغيير جذري قد تخسر فيه امتيازاتها المكتسبة. وما الصراع الهووي القائم الآن والذي يستعيد آليات الإقصاء السياسي والفرقة إلا بوابة لترك الأمر على ما هو عليه، فرب جمود حولها يضمن مصالحها.
يواصل الكثير من العرب المكتوين بنار الحرب الأهلية تمجيد التجربة التونسية، لكنهم يتجاهلون من حزن أو من رغبة في خداع الذات الكواليس التي يجري فيها التآمر على التجربة في حدها الأدنى. كسر التوافقات التي يحتمل أن تنتج ولو على المدى البعيد احتمالات تجاوز الإقصاء إلى التعايش في الاختلاف. لقد وصل الأمر بالبعض إلى وضع البلد تحت سيف أجهزة البوليس الدولي لكي يتم توريط خصم سياسي في رعاية الإرهاب. فالاستئصال عندها كما كان دوما هدف في ذاته يضحى من أجله بالدولة ذاتها.
إننا إزاء نخبة لا تجادل مسلماتها أبدا ولا تراجع مسارات الفعل السياسي الذي تبني عليه منذ تأسيسها. إن السؤال عن جدوى التجربة وحدودها سؤال ممنوع لدى هؤلاء، لأنه فاتحة المراجعات المحرمة، وهذا في ذاته هروب إلى الأمام، دون وعي بأن وصول الإحباط إلى حده الأقصى يفتح على الانفجار الدموي دون رادع.. الانفجار الذي يجد فيها الإرهاب بيئته المحببة حيث يصير له الطول والحيلة ليفرض شروطه في إدارة التوحش.
هل علينا أن ندافع بعد عن التوافق المنجي من الخراب؟ سنكتفي بالقول إن الحيل التوافقية استنزفت بيد الداعين ظاهرا إلى التوافق (ذات حوار وطني مغشوش) وإننا مقبلون على الخراب بإحدى صيغتيه اللتين لا ثالثة لهما، الموت خنوعا أو الموت خرابا. وقد أفاق الناس صبيحة 5 تموز (يوليو) بوجوه خشبية. لقد فضلوا مرغمين الأمن على الحرية وهم على علم بأنهم سيخسرون الاثنين. إن الحكمة الوحيدة المتبقية هي التَّرَفع عن ترويج وهم التوافق المنتج ليقف الناس جميعهم أمام فاجعة الاحتراب الأهلي ويتخذوا لها سبلا.