مقالات مختارة

حي»الزرقاوي»… كنت هناك

بسام بدارين
1300x600
1300x600
يصر صديق على مراقبة مؤشر حيوي وفعال لإنتاجية كل الخطاب الاستهلاكي في الحالة الأردنية تحديدا، وبالتالي العربية، عندما يتعلق الأمر بالبحث عن الجهد الحقيقي المبذول في "مواجهة التطرف والتشدد" وبصورة لا يستفيد منها حتى الآن إلا إسرائيل ومن يؤمنون بأنهم يمثلون السماء فيقطعون رؤوس أهل الأرض.

المؤشر له علاقة بمفارقة مثيرة، فالحي الذي ولد ونشأ وترعرع فيه الراحل أبو مصعب الزرقاوي مؤسس تنظيم القاعدة في العراق والأب الروحي لجماعة داعش، لا زال على حالته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في عمق مدينة الزرقاء المليئة بالبؤس والفقر، والتي غادرتها التنمية الحقيقية منذ عقود.

عبرت هناك.. ذات الأزقة والممرات الضيقة والعاطلين عن العمل والزعران والأشقياء في المكان، ولم يلاحظ سكان حي الزرقاوي أي تغيير من أي نوع في حالتهم التنموية، لا على صعيد المدارس ولا المساجد ولا الصحة ولا التعليم، ولا حتى تنظيف أروقة الحي العشوائي، وهو بكل الأحوال حال المئات من القرى والمخيمات والأحياء في مختلف المحافظات الأردنية.

المعنى والدلالة أن المسوغات التي أنتجت ظاهرة الزرقاوي، وهو أول قاطع رأس أمام الكاميرا بالمناسبة بين الجهاديين في العصر الحديث، لا زالت على «حطة اليد»، ولم يشهد الحي الشعبي الذي صنع الظاهرة أي ملامح تغيير أو تطوير.

ذلك في الواقع يحصل رغم أن جميع المسؤولين في هرم الدولة الأردنية من القمة للقاع يتحدثون عن مواجهة الإرهاب والتطرف، ورغم عشرات الخطابات الملكية التي تروج في العالم للبرنامج الأردني في مكافحة التشدد.

ويحدث رغم أن مدينة الزرقاء ذاتها تستقبل يوميا عشرات من الوفود الأجنبية والسفراء الذين يضخون المال تحت عنوان التنمية التي لم تحصل في الواقع بعد؛ لأن العشوائية لا زالت سيدة الموقف عندما يتعلق الأمر ببناء وإدارة المساجد، ولأن العقل الإداري الأردني لا يميل إلى التفكير ببناء مسرح أو مركز ثقافي أو حتى مكان يصلح كملعب رياضي يمكن أن يحتوي طاقة الشباب قبل تورطهم بأي تفكير منحرف أو متطرف .

يتحالف البؤس التنموي بطبيعة الحال مع مظاهر الاستبداد والفساد في العالم العربي في إنتاج ظواهر ورموز صناعة التطرف الديني؛ لأن المواطن العربي ببساطة شديدة يشاهد يوميا حقوقه المباشرة وهي تنتهك لصالح القطط السمان ورموز الفساد المنتشرين كالسرطان في كل مكان.

لا عزاء للشاب العربي، ولا حتى الأردني، وهو ينشأ ويترعرع في أحضان الفقر والبطالة، وفي أحياء محرومة خالية من التثقيف وتدوير الطاقة الذاتية، في ظل نظام تعليمي متخلف وسقيم لا يحفز الإبداع، ولا يوفر الدفء في الشتاء، ومصمم للأردنيين فقط، لكنه يتعامل دون جاهزية مستقبلية مع أكثر من 140 ألف تلميذ سوري تم استيعابهم فجأة بمدارس الحكومة وبقرار سياسي ودون الاستعداد بنيويا أو هيكليا لهم.

على هامش نقاشات مع أردنيين مثقفين في إحدى العواصم الأوروبية، تم التركيز على تحليل صورة الاجتماع «الأمني» الذي ترتب بين وزيري التربية والتعليم والداخلية وأركانهما بعنوان «الاستعداد لموسم امتحانات الثانوية العامة».

للأسف قد نكون في الأردن المجتمع الوحيد الذي ظهرت فيه أعراض مرضية موتورة بعنوان المطالبة بالغش في الامتحانات شعبيا، وقد نكون الدولة الوحيدة التي يتم فيها منح وزير التربية والتعليم أعلى الأوسمة، لأنه فقط نجح في مهمة يفترض أنها طبيعية وتلقائية، فقد تمكن من السيطرة على عملية تسريب الأسئلة وعلى ظاهرة الغش العلنية في الامتحانات.

طبعا ذلك إنجاز للوزير ورفاقه في الوزارة، من حقهم أن نصفق له، لكن المؤلم أننا نعدّه إنجازا فارقا، وأن منع الغش في الامتحان أصبح مطمحا لنا، ما يؤشر إلى انهيارات مؤسفة في النظام الإداري والاجتماعي من الواضح أن التطرف هو الذي يتغذى عليها ويستفيد منها.

فيما كان الوزيران ـالداخلية والتعليمـ يجتمعان لتنسيق عملية تأمين امتحانات الثانوية، كانت ابنتي الوسطى تبلغني بأن ثمن نسخة من أسئلة امتحان الوزارة لصفها بلغ دينارا ونصف الدينار، قبل أن تعترف الوزارة بأن مسألة «التسريب» والمتاجرة بالأسئلة أطلت برأسها مجددا.

أنا شخصيا معجب بوزير التربية والتعليم الدكتور محمد ذنيبات وأدائه، لكني كوني مواطنا أشعر بالخجل الشديد لأن الرجل مضطر للاستعانة بوزارة الداخلية والشرطة حتى يمنع مواطنين مثلي من التنظير للغش بالامتحانات، خلافا لتحفظاتي على كل منهجية الامتحان العام التي لا زالت بائسة وسقيمة ويمكن الاستغناء عنها.

كنت أفضل كغيري من المتابعين أن تنشغل الوزارة أكثر في تنقية وتشذيب المناهج الدراسية من تلك العوالق السطحية التي تساند التفكير المتطرف والمتشدد وتبارك فعاليات النفاق والتسحيج دون مبرر وطني أو في تنقية آليات التدريس والعمل من الذهنية التلقينية التي تعاكس التفكير الإبداعي والبحثي.

بكل الأحوال تلك مسألة مختلفة تماما، لكن أطفال بلادي وشباب بلادي -وتحديدا في حي الزرقاوي وأمثاله- من حقهم الشعور بأن التنمية تستهدفهم ..طبعا على أساس أننا جادون فعلا ولا نتاجر بالمسألة عندما نطرح شعار مكافحة التطرف والإرهاب والتشدد، فقد سمعت رأيا مقلقا من أحد الخبراء يقول فيه باختصار إن الأنظمة العربية ستنتج متطرفين لو يكون هناك متشددون لأسباب تعلمها القيادة دوما.



(نقلا عن صحيفة القدس العربي)
التعليقات (0)