أحيا
لبنان قبل أيام في الأول من حزيران/ يونيو الجاري الذكرى السنوية الثامنة والعشرين لاستشهاد
رشيد كرامي، رئيس الحكومة الأسبق نائب طرابلس عاصمة لبنان الثانية وزعيمها الأبرز، الذي حظي ملفه في حينه باهتمام استثنائي من الحكم السوري للبنان بإصراره على إجراء محاكمة كاملة، لم يحظ بمثلها زعماء لبنانيون آخرون تم اغتيالهم، وخلصت إلى إدانة قائد مليشيا القوات اللبنانية (المسيحية المتشددة)
سمير جعجع والحكم عليه من المجلس العدلي بالإعدام، بتهمة اغتيال كرامي وخفض العقوبة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.
وفي 21 حزيران/ يوليو 2005 وبعد 11 عاماً قضاها في سجن انفرادي، صدر قرار العفو عن جعجع في الجريدة الرسمية إثر تصويت مجلس النواب، بعد خروج الجيش السوري من لبنان، على العفو وتحويله الى مرسوم بتوقيع رئيس الجمهورية.
إحياء الذكرى أشرف عليه هذا العام الوزير السابق فيصل عمر كرامي، الذي وجه خطاباً بالمناسبة، جدد فيه إدانة القاتل وشجب قرار العفو عنه، وهو موقف متفهم من فيصل كرامي، فهو من عائلة لم تشارك في الحرب ولم تقتل ولم تؤيد من قتل رئيسي الجمهورية رينيه معوض وبشير الجميل، أو رئيسي الحكومة رياض الصلح ورفيق الحريري، أو الوزير كمال جنبلاط، أو المفتي حسن خالد والشيخ صبحي الصالح، أو النواب كاظم القادري وأنطوان غانم ووليد عيدو وجيران تويني وبيار الجميل، أو السياسيين جورج حاوي ومحمد شطح أو الصحفيين رياض طه وسليم اللوزي وسمير قصير، أو الضباط فرنسوا الحاج ووسام الحسن وسامر حنا ووسام عيد.
يمكن فهم موقف عائلة كرامي التي تدين تعامل القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية زمن الحرب مع الكيان الإسرائيلي، فلم يخرج منها أي متعامل مع الاحتلال "الإسرائيلي" كتيار الجنرال ميشيل عون، الذي أدين أحد أبرز أركانه فايز كرم بالتعامل مع الموساد.
يمكن فهم موقف عائلة كرامي التي تذكّر كل عام بأن سمير جعجع كان ينوي تفجير السلم الأهلي، فهي لم تتحالف مع الموقوف ميشال سماحة الذي أُدين بتهمة التخطيط لتفجير عبوات ناسفة في مناطق الأغلبية السنية لإشعال فتنة مذهبية وطائفية، ولم تشكل حصانة سياسية له، بل أدانته وأدانت إجرامه.
يمكن فهم موقف عائلة كرامي التي تدين إجرام القوات اللبنانية زمن الحرب، فهي لم تنشئ مليشيا لتعتدي على المسيحيين وتحتل كنائسهم، ويُتفهم عدمُ عفوها عن جعجع فهي لم تعف أيضاً عن الراحل إيلي حبيقة المتهم الرئيسي بمجازر العصر الوحشية في مخيمات صبرا وشاتيلا، ولا تتحالف اليوم مع أي نظام أو منظمة تقتل المدنيين المختلفين بالرأي أو المذهب أو الدين.
يمكن فهم كلام فيصل كرامي بأننا "لم نسامح ولن ننسى، وقاتل رشيد كرامي مرذول إلى يوم الدين"، فهو لم يعتبر المتهمين من المحكمة الدولية بقتل رفيق الحريري قديسين في الدنيا والآخرة.
يمكن فهم كل مواقف عائلة كرامي من سمير جعجع، بغض النظر عن المطالعة الدفاعية التي تكررها القوات اللبنانية في كل مناسبة وتشكك فيها بنزاهة القضاء أيام الحكم السوري، لكن ما لا يمكن فهمه هو رجم أصحاب السوابق و"الحواضر" الإجرامية المفتوحة عبر الأبواق الإعلامية زميلاً سابقاً لهم في الحرب الأهلية، أدين دونهم واعتُقل ثم أُفرج عنه، فيما الأولى أن يلعبوا جميعاً ومعاً "الكوتشينا" في زنزانة واحدة.
بالمقارنة مع المتهم بمجازر صبرا وشاتيلا إيلي حبيقة، فإن سمير جعجع يجب أن يكَرّم بتوزيره.
وبالمقارنة مع العميل الإسرائيلي فايز كرم ، فإن جعجع يجب أن يسجن 18 شهراً ليس أكثر، وبالمقارنة مع الوزير السابق ميشيل سماحة فإن جعجع يجب أن يسجن 40 شهراً فقط، وبالمقارنة مع المتهمين بإدارة تفجير مسجدَي التقوى والسلام في طرابلس، فإن جعجع يجب أن يُهَرب وراء الحدود ويُعامل معاملةً عزيزة، أما بالمقارنة بعناصر "
حزب الله" الأربعة من القضاء الدولي بقتل رئيس الحكومة رفيق الحريري، فإن "مار جعجع" ينتظر التطويب المقدس في الفاتيكان.
شخصياً؛ لا يمكن أن أنسى ساعات من الرعب الحقيقي عشتها في صغري عندما كنت طالباً أعبر من طرابلس إلى بيروت على حواجز القوات اللبنانية الطائفية، لأنني كنت مسالماً لا أعرف حمل السلاح ولم أشارك في لعبة الحرب. لم أكن في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية أو حركة أمل أو الحزب التقدمي الاشتراكي أو الحزب الشيوعي أو الحزب السوري القومي الاجتماعي أو حزب البعث أو القيادة العامة "الفلسطينية" أو قوات الصاعقة أو المرابطون أو "التوحيد الإسلامي" أو "الفرسان الحمر- العلويون"، أو أي شيء من هذا، لأنني كنت أدرك أنني إذا انتسبت لمليشيا مقاتلة، فإن في مقابلي شاب آخر سينتسب إلى مليشيا مقابلة، نتقاتل معاً، يقتلني يوماً، ثم أقتله في اليوم التالي.
ملفات الحرب الأهلية اللبنانية 1975 مثقلة بالدماء والأشلاء، ولم يستطع اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب عام 1989 أن ينزعها من النفوس، فيما المطلوب أن تبقى في الأذهان للعِبرة، فثمة حرب جديدة بأبعاد مختلفة تهدد لبنان وفتيلها يلوح من عرسال المدينة البقاعية المحاذية لسوريا ذات الأغلبية السنية، والمحاصرة استراتيجياً من "حزب الله" بحجة تحضيره لمعركته الفاصلة مع "جيش الفتح" السوري في الجبال الواقعة ما بعد بعد عرسال.