كتاب عربي 21

عن الثورة والاستعمار

تميم البرغوثي
1300x600
1300x600
من البديهي القول إن الطغيان مجلبة للكوارث، وقتل المدنيين وتعذيب المعتقلين وتوريث الحكم لا يحرر أرضا ولا ينصر حليفا، ولكن كلامي اليوم ليس عن هذا البديهي، بل عن أمر يبدو أن الناس اختلفوا فيه بشأن الثورات العربية. إنني أحاول في هذه السطور تقديم الحجة على أن أي ثورة على الاستبداد لا تستحق اسمها، ما لم تكن ثورة على الاستعمار في الأساس. 

والاستعمار هو غزو قوة أجنبية لبلادنا، وبالتالي اقتضى تعريفا لنا وللآخرين. وأنا لن أدخل هنا في جدل نظري طويل، على حبي للدخول فيه، عن معنى الهوية ومصادرها، وما العناصر التي بها تستحق مجموعة من الناس أن تسمى أمة أو شعباً. 

بدلاً من ذلك، أدعو القارئ لسؤال الناس أنفسهم، من أنتم ومن الغريب عنكم، فلتنزل أخي القارئ لأي شارع من شوارع القاهرة ثم اسأل الناس عن معنى الخواجة، وهي الكلمة الدارجة التي يستخدمونها لوصف الأجنبي، أسألهم: هل تسمون الفلسطيني والعراقي والمغربي والتركي والإيراني خواجة؟ فسيجيبونك بالنفي، ثم اسألهم، هل تسمون المسيحي المصري القبطي أو المسيحي السوداني أو الفلسطيني أو السوري أو العراقي خواجة؟ فسيجيبونك بالنفي، لأن من يتكلم العربية مثلهم ليس بغريب عنهم. 

فالهوية في هذه البلاد بسيطة، من كان عربيا فهو من هذه الأمة أياً كان دينه، ومن كان مسلما فليس غريباً أيا تكن لغته. فلا تركيا استعمار ولا إيران استعمار، ولا صلاح الدين الكردي أجنبي، ولا الظاهر بيبرس الشركسي أجنبي، ولا نور الدين محمود التركي أجنبي، ولا الأخطل التغلبي المسيحي أجنبي، ولا مكرم عبيد ولا نجيب الريحاني ولا جبران ولا فيروز ولا آل الرحباني جميعا. 

هذا عن اللغة والدين، أما التفرقة بين الناس على أساس المذهب فمضحك، فهل سيف الدولة الحمداني وأبو فراس وباني القاهرة المعز لدين الله والفرزدق والكميت بن زيد الطائي ومحمد مهدي الجواهري من ناحية، وباني قبة الصخرة  الوليد بن عبد الملك، وباني بغداد أبو جعفر المنصور، وباني سامراء المعتصم بن الرشيد، وعبد الرحمن الداخل وأبو تمام وابن زيدون وبن حزم  من ناحية أخرى، مستعمرون أجانب يا عباد الله! هذه كلها أمة واحدة. فالاستعمار هو الاستعمار الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، ثم الاستعمار الإسرائيلي والأمريكي في القرنين التاليين.

لذلك، فإن أي حركة عربية تتحالف مع الولايات المتحدة أو مع إسرائيل، وتسمي ايران أو تركيا أو طائفة من هذه الأمة، كالمسيحيين أو الشيعة أو غيرهم، أجانب أو أعداء، فهي ليست عندي حركة ثورية، بل هي حركة مضادة للثورة أو هي ثورة مضادة. 

ومن الأكيد أنه لا يجوز أن يسمى ثائراً من يتلقى سلاحه من الولايات المتحدة الأمريكية وتدريبه من وكالة الاستخبارات المركزية، ويقيم علاقة من أي نوع مع إسرائيل، بل ليس ثائرا في بلاد العرب من لا يناصب إسرائيل العداء بوضوح وعلنية، والتزامه بمعاداة الاستعمار يجب أن يضاف إليه التزامه باحترام المدنيين.

فالبريء من قصف الناس بالبراميل، يجب أن يكون بريئاً أيضاً من نسفهم بالمفخخات، والبريء  من قطع أعناق الناس بالسكاكين، يجب أن يبرأ أيضاً من أكل قلوبهم، والبريء من سبي الأقليات يجب أن يبرأ أيضا من خطف رجال الدين والحجاج المخالفين له في الملة أو المذهب.

والسبب في القول بأولوية مقاومة الاستعمار لتستحق الثورة اسمها واضح: 

أولاً: إن الاستعمار كلف بلادنا من الموت أكثر مما كلفها الفساد والاستبداد معاً.

ثانياً: إن الاستبداد ذاته نتج عن بنية دول رسم حدودها الاستعمار، وكانت جزءا من منظومة سياسية يكرهها الناس لحكم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد الحرب العالمية الأولى، هذه المنظومة أسست استقلال الدول العربية وأنشأت إسرائيل في نَفَسٍ واحد، وصممت هذه الدول العربية بحيث تكون تابعة اقتصادياً ومنكشفة عسكرياً لمنشئيها من دول الاستعمار ولحلفائهم. 

لذلك، فقد ولدت الدول العربية فاقدة للشرعية أيا كان حكامها، بسبب كره الناس للقوى التي أنشأت هذه الدول لتقسيمهم واستغلال ثرواتهم وزرع إسرائيل بينهم. وهي دول يكذب حكامها على شعوبهم حين يقولون لهم إنهم يسعون لتحرير فلسطين والوحدة العربية أو حتى للنمو الاقتصادي المستقل، لأنهم يعلمون أن القانون الذي به تكون دولهم مستقلة هو القانون الذي حمي مشروع إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين بعد 1917 ثم حمى إسرائيل منذ 1948، وهو القانون الذي وضعته القوى الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وعززته بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية. 

وهؤلاء الحكام يعلمون أن الدول، بحدودها وبيروقراطياتها وعسكرها وشرطتها، هي من الناحية العسكرية والاقتصادية والسياسية أقفاص بنتها لهم هذه القوى الكبرى، وأنه دون مواجهتها  وتفكيك هذه الأقفاص، أي دون أن يتحولوا عملياً إلى فدائيين، فإن كل وعودهم لنا بالحرية تبقى كلاما فارغا. وفقدان الشرعية هذا يضعف الحكام، والحاكم الضعيف الخائف أشرس وأشد بطشا من الحاكم المحبوب المطمئ. 

فأساس الاستبداد عندنا هو انعدام شرعية دول بناها الاستعمار لتكون في ذاتها أداة من أدواته. وكذلك الفساد، فالحكام يدركون أن كراسيهم تبقى لهم برضا المستعمر لا برضا الشعوب، وكما يرشو المستعمر الحكام بالسلطة، يرشو الحكام من دونهم من المتعاونين معهم بالمال والحصانة، فترى أن الفساد هو جزء من بنية الدولة العربية، هو ليس ميلاً عن الطريق القويم للدولة، بل هو الدولة ذاتها لا تكون إلا به. 

فكل كلفة نتكبدها جراء استبداد أو فساد إنما مردُّها إلى الاستعمار، والاستبداد لا يداوَى بالاستعمار لأن الحروق لا تداوى بالكي، إنك إذا استعنت بالاستعمار لم تزد على كونك منافساً لعملاء الاستعمار الحاليين، وحين تحكم ستعاني ما يعانونه هم من انعدام الشرعية في الداخل والتبعية في الخارج، فتضطر إلى ما يضطرون هم إليه من استبداد وفساد لتحمي نفسك، فلا تسمِّ نفسك ثائرا إذن، بل حاسدا لعميل على عمالته، وراغبا في أن تكون مكانه.

ثالثاً: لذلك ترى أن أنجح الكيانات في مقاومة الاستعمار هي الكيانات التي ليست بدول، كالمقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية.

رابعاً: ما سبق يصح في أي مكان، وليس مقصوداً به بلد عربي بعينه، كل من يسمي نفسه ثائراً ثم يقرر أن يتقاعس عن مواجهة إسرائيل أو يتعاون مع الولايات المتحدة، حتى لو من باب التأجيل أو "الحصافة السياسية" يخسر اسم الثائر، ويتحول إلى شيء آخر.

خامسا وختاماً: الاستعمار ليس دواء للاستبداد؛ لأنه في أغلب الأحيان صانعه، والاستبداد ليس دواء للاستعمار؛ لأنه في أغلب الأحيان، صنيعته، وتمام الحرية الخلاص من الاستعمار والاستبداد معاً لا إحلال أحدهما محل الآخر.
التعليقات (1)
sami sadek
الإثنين، 11-05-2015 12:20 م
مساواة الشعوب الثائرة بحكام مدعون خونة أمر غير منصف و جائر.